مهمة مستحيلة!

TT

أعرف بعض أصدقائي من المصرفيين عندما يكونون موجودين في مناسبات عامة وحفلات استقبال ويطلب منهم التعريف عن أنفسهم فإنهم باتوا يفعلون ذلك بصوت منخفض وتلعثم وتردد، وبالكاد تخرج الكلمات من على ألسنتهم. فاليوم مهنة المصرفي لم تعد كما كانت، ولم يعد لها ذات الهيبة والمكانة والتقدير والاحترام، فلقد ارتبطت هذه المهنة منذ الثمانينات الميلادية من القرن الماضي بأحداث وجرائم نصب من الطراز الرفيع حتى باتت تعرف بمسمى خاص جدا بها وهي «جرائم الياقات البيضاء».

واليوم تواصل الأزمة الاقتصادية العالمية «كشف» مجموعة من الاختلالات الحاصلة في مصارف عالمية كبرى والتي أدت إلى تجاوزات مالية مخيفة بحسب الجهات التي تولت التحقيق في ذلك. فها هو بنك باركليز العريق يهتز ويضحي برئيس مجلس إدارته وبنوك سويسرية تترنح وتخضع للتحقيق، وبنك ستاندرد تشارترد يواجه سلسلة من الاتهامات من الأجهزة القضائية في أميركا، وغيرها من المصارف العالمية الضخمة.

هل هذا السيل الجارف من الاتهامات والشكوك والادعاءات أثار مخاوف مركز الصرافة العالمية سويسرا مما جعل كبرى البنوك فيها ترسل مذكرة داخلية جادة ومهمة لكبار التنفيذيين فيها تحثهم وتطلب منهم قضاء إجازاتهم المعتادة داخل الحدود السويسرية وعدم المغادرة، وذلك خوفا من ملاحقة السلطات القضائية الأميركية لهم في كافة أنحاء العالم وهي صاحبة اليد الطولى في ذلك ولها القدرة لتحقيق ما تصبو إليه في معظم الأحيان.

البنوك في شكلها المسيطر والطاغي تحولت لأداة نافذة وفعالة لتحقيق الهندسة الاجتماعية وتحقق توازنات أو تخل بالتوازنات في بعض المجتمعات يساعدها في ذلك نظام رقابي هش ومعدوم الإحساس ومتواطئ في كثير من الأحيان في بعض البنوك المركزية التي «يستفيد» القائمون عليها بشكل مباشر عن طريق المكاسب المادية من شراكات ورشاوى ومكافآت وحوافز «خاصة» أو عن طريق توظيف الأنصار والمحاسيب في مواقع مهمة ونفوذ لتكريس السلطة وتوسيع رقعتها، وهي كلها مدعاة لتكريس البيئة الفاسدة التي تسمح بمرور المال الساخن والمال المشبوه والمال القذر الذي يعاد تدويره عبر حسابات مصرفية وواجهات مناسبة لتحويلها إلى أرقام ومبالغ وقيم مناسبة وشرعية وهي دورة شيطانية لا تتحقق ولا تكتمل إلا بمساعدة داخلية من البنوك ومن فيها وبمباركة علوية ممن يراقبون البنوك وبذلك تكتمل الخلطة الجهنمية التي لا بد أن تفرز هذه الجرائم ذات الياقات البيضاء (يا له من اسم ساذج لها).

أتذكر أحد الأصدقاء من رجال الأعمال وهو يروي نكتة رواها عن أستاذ جامعي كان يدرس في إحدى كليات الأعمال بالولايات المتحدة الأميركية وهو يصف المصرفيين عندما قال: لماذا لا يصابون بنوبات قلبية؟ فأتى الجواب لأن هؤلاء لا قلب لهم أصلا، وأضاف الأستاذ الجامعي: عالم المصرفية عالم بلا قيم ولا ضمير ولا أخلاق ولا مرجعية، البقاء فيه ليس للأقوى ولا الأذكى، ولكنه يبدو أن البقاء فيه للأسفل!

اليوم في الغرب هناك مراجعة كثيرة «لنوعية» الموظفين الذين يقبلون العمل في المصارف، مطلوب إعادة النظر في السلم الوظيفي والحوافز المعدة له بحيث يكون هناك نظرة للعنصر الأخلاقي مع العنصر المادي المخطط له أن يحقق وهي لغة تبدو جديدة تماما على مهنة كانت دوما في «الأدبيات» صورة للاستغلال والجشع ومص الدماء مهما زينت اليوم بالمباني الشاهقة والآليات المتقدمة والبدل ذات الذوق الرفيع والأناقة اللافتة، فلا يمكن أن تطغى أطنان العطور على القمامة.

العالم ينتظر أن يقوم القطاع المصرفي بانتفاضة أخلاقية على نفسه وإعادة قليل من الاحترام له ولكن هناك من يراهن أن الطلب يبدو مستحيلا.

[email protected]