فشل فكرة نبيلة

TT

لا توجد «فكرة كبيرة» من الأسهل تقديرها من حيث المبدأ ولا من الأصعب تطبيقها من الناحية العملية أكثر من دور حفظ السلام الذي تضطلع به الأمم المتحدة. إن هذا واضح بدرجة تؤلم في مذكرات جديدة لكوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة. وكان آخر فشل مني به حلم الأمم المتحدة هو بعثة المراقبين في سوريا التي تلعب دور الوسيط. لقد ظل يحاول لعدة أشهر أن يقنع الرئيس بشار الأسد مستخدما اللين بالتوقف عن القتل وبداية مرحلة انتقالية سياسية لتفادي الحرب الأهلية. ولم يتلق أنان إلا الرد التقليدي الكلاسيكي الذي عادة ما تتلقاه بعثات الأمم المتحدة وهو: ابتعدوا من هنا.. إنكم لا تملكون القوة التي يمكن أن تردعني.

وقد انصرف أنان بالفعل الشهر الماضي وأنهى بعثته وربما مهنته كوسيط. ماذا بعد؟ الأمر الذي يزداد وضوحا وهو القيام بعمل سري شبه عسكري بدعم من الولايات المتحدة وأكثر حلفائها من أجل مساعدة الثوار السوريين في تنفيذ ما لم تستطع الأمم المتحدة تنفيذه.

وتعد مذكرات أنان الجديدة «Interventions» (تدخلات) دراسة في فشل فكرة نبيلة. وينبغي أن تكون بمثابة دعوة للقارئ للتأمل والتفكر في سبب عدم قدرة المجتمع الدولي في كثير من الأحيان على استجماع القوة (أو الإرادة) اللازمة لمنع الصراع. وهناك فشل آخر مرتقب مع إيران، حيث لم تنجح ست سنوات من العقوبات المتصاعدة من قبل الأمم المتحدة في عرقلة برنامج إيران النووي ويتزايد احتمال القيام بعمل عسكري أحادي الجانب.

وقد كنت دوما من الداعمين للقيام بعمل يشترك فيه عدة أطراف من خلال الأمم المتحدة، ولا أزال أعتقد أن الولايات المتحدة هي الأكثر قوة عندما تعمل تحت مظلة شرعية المنظمات الدولية.

مع ذلك لا تمثل الأمم المتحدة اليوم أي أهمية، حيث تصطدم رغبة أكثر الدول الأعضاء في تغيير النظام بسوريا على سبيل المثال بسهولة بحق النقض الذي تستخدمه دولة واحدة تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن مثل روسيا.

ويقدم أنان سردا لاذعا لبعض أخطاء الأمم المتحدة خلال العقود التي عمل خلالها مع الأمم المتحدة خاصة في وصفه لبعثات حفظ السلام في التسعينيات في الصومال ورواندا والبوسنة، التي يشير إليها مجتمعة بأنها «أكبر إخفاقات» المنظمة.

لقد كانت الصومال مشروع بطرس غالي، الذي كان يتولى منصب الأمين العام قبله. وتم إنشاء قوة حفظ للسلام تابعة للأمم المتحدة في مارس (آذار) عام 1993 وكانت تعرف باسم «يونوسوم 2» ووصفتها مادلين أولبرايت، السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة آنذاك، بأنها «مشروع غير مسبوق لا يهدف إلى ما هو أقل من إعادة بلد بأكمله إلى حالته الأصلية». مع ذلك كانت المشاركة العسكرية الأميركية تقتصر على قوة عمليات خاصة صغيرة تلاحق الجنرال الثوري محمد عيديد. واكتفت الولايات المتحدة بالتواصل مع بطرس غالي ولم تنسق مع باقي قوة الأمم المتحدة. وعندما قتل أميركيون في كمين دموي في مقديشو، وهو حدث تناوله فيلم «بلاك هوك داون» (سقوط الصقر الأسود)، نفضت واشنطن يدها من العملية وسرعان ما انهارت «يونوسوم 2». وأثارت الفوضى التي حدثت في الصومال قلق الأمم المتحدة من التدخل إلى الحد الذي جعلها تتجاهل تقريرا قدمه مندوبها في رواندا بعد بضعة أشهر يحذر من احتمال وقوع مذابح إبادة هناك.

في يناير (كانون الثاني) عام 1994، أرسل الجنرال روميو دالير، القائد الفرنسي الكندي لقوة صغيرة تسمى «أونامير»، برقية إلى نيويورك يقول فيها إن الحكومة التي يقودها الهوتو في كيغالي تخطط لـ«إبادة» التوتسي.

واختتم رسالته بعبارة «فلنفعل شيئا»، لكن الولايات المتحدة لم تفعل شيئا. وبعد ثلاثة أشهر تم قتل 800 ألف رواندي.

لقد كان أنان يدير عمليات حفظ السلام في ذلك الوقت، فأرسل إلى نائبه القائد الشجاع دالير برقية يؤكد فيها ضرورة تفادي اتخاذ مسار قد يؤدي إلى استخدام القوة وعواقب غير متوقعة. إن هذا لهو فصل مؤسف حقا من تاريخ الأمم المتحدة، ولا يمكن أن ينسب إلى أنان أي فضل لمجرد روايته هذه القصص وقصصا أخرى بصدق وأمانة.

كانت الانتكاسة الثالثة هي البوسنة، ففي إبريل (نيسان) عام 1993، طلب مجلس الأمن جعل مدينة سريبرينتسيا، التي كانت تضم 60 ألف لاجئ مسلم وتحيط بها القوات الصربية البوسنية، «منطقة آمنة.. خالية من الهجمات المسلحة». انتظر اللاجئون أكثر من عامين حتى حققت الأمم المتحدة ذلك. وفي يوليو (تموز) عام 1995 ارتكب الجنرال راتكو ملاديتش مذبحته المشينة. وأخيرا تدخلت «يو إن بروفور» بعد ذلك بشهر.

وعندما أصبح أنان الأمين العام للأمم المتحدة حاولت المنظمة تعزيز جهودها في مجال حفظ السلام. تحسّن أداء المنظمة في تيمور الشرقية وكوسوفو وليبيا من خلال تضمين مفهوم «مسؤولية الحماية» استخدام بعض القوة. مع ذلك تبقى القصة الأشهر هي تقيد الأمم المتحدة في التعامل مع العراق والقضية الفلسطينية والعراق والآن سوريا. ما الذي يمكن فعله؟ لم تفعل أولبرايت ولا الـ15 وزير خارجية الآخرون سوى إرسال خطاب إلى الرئيس فلاديمير بوتين يقولون فيه إنهم «شعروا بإحباط كبير» بسبب فشل روسيا في دعم بعثة الأمم المتحدة، ويطلبون فيه اتخاذ إجراء من أجل وضع حد للحرب في سوريا. ويقول مكتب أولبرايت إن رد فعل الروس كان سلبيا. وكما يوضح لنا هذا الكتاب الذي يكشف الكثير، لا بد أن تكون هناك طريقة أفضل للحيلولة دون وقوع صراعات هدّامة مدمرة.

* خدمة «واشنطن بوست»