طلب استيضاح من مواطن!

TT

من المبكر للمراقب إن كان يريد تبوؤ كرسي إصدار الأحكام، أن يصدر حكما نهائيا على نتائج ربيع العرب، وشكل الدولة التي نتجت عنه ونوع السياسات المطلوبة، على الرغم من المؤشرات التي تبدو سلبية حتى الآن، بالقياس إلى مطالب عامة رددتها النخب العربية لنصف قرن من الزمان على الأقل، واتكأت عليها أسباب ثورة الربيع العربي، على رأسها الحريات بمعناها الحديث، التي هي المدخل - ولا مدخل غيره - لكل تقدم.

الحكم الحقيقي ربما يمكن الوصول إليه بعد إصدار الدساتير، التي هي في مرحلة الكتابة الآن في مطبخ من وصل الحكم بعد الربيع، في كل من تونس ومصر وليبيا، إلا أن المراقب العربي يستهويه أن يطرح بعض التساؤلات المبكرة حول السياسات التي اعتمدت حتى الآن، سواء في تونس أو في مصر أو حتى ليبيا الداخلية أو الخارجية، من أجل تلمس بدايات لذلك الطريق، خاصة أنه بدا من بعضها بعض الارتباك.

أضحت معركة الإعلام واضحة في تونس، لم يرق لكثيرين الكلمات التي استخدمت في توصيف الوضع الإعلامي التونسي من النخبة الحاكمة الجديدة بأنه (تطهير) للإعلام، وإلصاق بعض التهم لبعض الإعلاميين، سواء في القاهرة أو تونس، هذا الموقف ذكر البعض سريعا بما كان يقال ويفعل قبل أشهر قليلة من قبل الأنظمة السابقة، المطلوب في هذه المرحلة هو (توسيع العقول) لا (توسيع المعتقلات) ولا (تكرار الاتهامات)، فقد كانت المعتقلات تضج بالمعتقلين من أعداء الأنظمة السابقة التي جرى (تطهيرهم) ولم يوقف ذلك التطهير شيئا مما حدث بعد ذلك، من تغيير جذري! كما كانت وسائل الإعلام في العهود السابقة، تطلق البخور للرئيس (السابق ومعاونيه)، ومع ذلك لم يثمر هذا التبخير إلا غضبا جماهيريا عارما، واعتبره الناس نفاقا، إضافة إلى أن الإعلام اليوم لم يعد محطة إذاعة أو تلفزيون، أصبح إعلاما جماهيريا يمر من على رأس الرقيب وبين يديه، ويصل إلى الناس في كلمات قليلة. لقد تغير دون رجعة. فلماذا الإصرار على تكميم الأفواه بشعارات مختلفة؟ الإعلام هو ظل للأحداث، ولا يستقيم الظل والعود أعوج!

طلب الاستيضاح له أكثر من مدخل، كان الموقف من الإعلام أولها، وربما الثاني هو فهم السياسة الخارجية، خاصة المصرية، وما أصابها من ضبابية؛ لأن مصر هي حجر الرحى في هذه المنطقة، وليس أفضل من فهم التشوش، ما صرح به الرئيس المصري محمد مرسي في طهران الأسبوع الماضي، معطوفا على اقتراح سابق له. لقد كان ذهابه إلى طهران محل جدل بين أطراف مختلفة؛ حيث عقدت قمة عدم الانحياز السادسة عشرة، مباشرة بعد مؤتمر قمة إسلامي استثنائي عقد في مكة، هناك اقترح مرسى تشكيل ترويكا إقليمية لحل مشكلة المشاكل، وهي المعضلة السورية، الدول الأربع المشمولة في الاقتراح بجانب مصر والسعودية، تركيا وإيران! كان البعض يتساءل كيف يمكن أن يكون من هم جزء من المشكلة (إيران) أن يصبحوا جزءا من الحل أيضا! وهل كان الرئيس محمد مرسي قد مهد لهذا الاقتراح من طريق الدبلوماسية، أم هي مبادرة أراد أصحاب القرار في مصر أن تكون متفردة، لقد كان الاقتراح مفاجئا، وقليل الحظ أيضا في احتمال التنفيذ، ولكن الترحيب الإيراني بهذه الاقتراح كان واضحا، ثم يذهب الرئيس مرسي إلى طهران ليقول الخميس الفائت في افتتاح قمة دول عدم الانحياز، مشيرا للأحداث في سوريا، أن نظامها فقد شرعيته، وهو نظام ظالم وإدانته واجب أخلاقي، بجانب كونه ضرورة سياسية.

لقد توقعت طهران – حين قرأت الاقتراح الأول – أن زيارة تاريخية للرئيس المصري الجديد سوف تتم إلى طهران وأن سياسة خارجية تميل إلى مواقفها قد جاءت سريعا من القاهرة، وقد ضمن مرشد الثورة الإيرانية في كلمته توصيف أن ما حدث في الدول العربية - عدا سوريا بالطبع - ثورة إسلامية، وجاء خطاب محمد مرسي مخيبا للآمال الإيرانية إلى درجة الاستفزاز؛ حيث نعت كلام الضيف بأبشع النعوت.

الضجة التي تبعت ذلك الخطاب كانت بين شاجب بقوة – من مؤيدي التيار الإيراني، وبين مرحب بحرارة – من مؤيدي التيار العروبي، ولكن ليس هذا هو المهم، فقد سجل الرئيس المصري شجاعة أدبية، الذي أريد استيضاحه يأتي في العمق متجاوزا الشجب وحتى التأييد، فالموضوع برمته (اقتراح الأربعة بلدان من جهة، وإدانة النظام السوري من جهة أخرى) تم في غضون أسبوعين، وكأنه انتقال من مكان إلى آخر، وبسرعة متعاكسة. فالخطوة لم ترض من أراد مقاطعة إيران أصلا، ولم ترض إيران بذكر حتمية نهاية النظام السوري الذي تساند، كما أن طهران لم ترد أن يسمع شعبها إدانة لسوريا، أو حتى ذكر للصحابة، فحرفت بعض وسائل إعلامها كلام الصديق، الذي كان مرحبا به حتى دقائق قبل الخطاب. إذا لم يكن هذا خلافا حادا بين العاصمتين فما هو الخلاف إذن؟ وهو خلاف لا لبس فيه حتى قبل الزيارة، فكيف يمكن مواءمة أن يطلب من إيران الانضمام إلى ثلاث دول أخرى لحل معضلة كالمعضلة السورية، من الواضح أن لها موقفا مخالفا تماما ومبدئيا ثم تدان حليفتها؟

فكرة الرباعية قد طارت في الهواء دون أثر، ولم يعد لها موقع أو حتى لزوم! بصرف النظر عن التفاصيل، العقلاء الذين لا يرغبون الانجرار وراء زفة ما، مؤيدة أو معارضة، قصرت عنهم متابعة الخط المقبل في السياسة الخارجية المصرية، وهي بالمناسبة مثل أي سياسة خارجية، أعني أن وضعها وتنفيذها هو الأسهل، فإن كان الأسهل صعبا على الفهم، فكيف سيكون الأصعب وهو السياسة الداخلية.!

سيعرف سريعا القائمون على السلطة الجديدة في بلاد الربيع العربي أنه من الصعب الاحتفاظ بالتفاحة في اليد وأكلها في الوقت نفسه، إما هذه أو تلك، في عالم سريع التواصل، وأمام شعوب فتحت أعينها على اتساعها وإعلام عالمي متابع وشفاف يرغب أن تحترم أصول اللعبة بكل قواعدها.

حزمة السياسات المرادة – بصرف النظر عن توجهها – يجب أن تكون ذات صفتين على الأقل، الوضوح الكامل في وضع أولويات تجاه الملفات المختلفة، والاستمرار في الطريق المتخذ إلى نهايته. محاولة الإرضاء والاسترضاء مستحيلة. فمن يكذب مثلا على شعبه بتحوير كلمة ضيف كبير مثل رئيس الجمهورية المصرية وفي محفل دولي، لا يمكن الثقة بتوجهاته مع الخارج، فهو يحمل في الغالب صفة القهر ضد ناسه، الأمر الذي يناقض كل ما تصوره المحتجون على الأنظمة السابقة في الميادين العربية.

أطرح أسئلة استيضاحية وأرصد التناقض، وقد يبرر تناقضات السياسة حداثة للاعبين، أما اللعبة فلها أصول، الإخلال بها مضر لمستقبل الربيع.

آخر الكلام:

تلازم الداخل بالخارج أصبح مؤكدا، لقد وقفت حكومة علي عبد الله صالح مع النظام العراقي إبان غزو الكويت، ففقد عشرات الآلاف من المواطنين اليمنيين البسطاء مصدر رزقهم.