بين مؤيد ومعارض.. لكن للجيش السوري الحر!

TT

لم يكن الجيش السوري الحر مكونا أصيلا في الثورة السورية، إنما فرضته الضرورة. ومع امتداد الثورة على محور زمني طويل ودموي، تحول الجيش الحر إلى مكون رئيسي، بل المكون الأبرز والأكثر إشكالية.

لقد ظهر السلاح في الثورة السورية، بعد شرارتها الأولى ببضعة أشهر، وبدا للكثيرين عنف يخدش سلميتها، ويحرفها عن ثوابت متجذرة في رهان انطلاقتها، فرافقه جدل، استمر حتى اليوم.

وبين التأييد مصحوبا بالدعم المطلق، والاعتراض مصحوبا بالتشكك، تحول الأمر إلى جدل بيزنطي، إذ يرى طرف أن عسكرة الثورة قد شرعنت للنظام استخدام قدرته التدميرية المفرطة، ورفع عدد الشهداء اليومي، عدا عن مخاطر جدية تمتد لمرحلة ما بعد الأسد، ويرى آخر أن الجيش الحر قد أفقد النظام قبضته الأمنية، وأخرج مساحات واسعة من البلاد عن سيطرته، ونفذ عمليات نوعية طالت شخصيات محورية من النظام، فاهتزت أركانه، وتضاءل رهاب سطوته.

يتفق الطرفان على أن الجيش الحر، اعتمادا على إمكانياته الذاتية، غير قادر على الحسم العسكري، رغم ما يحققه من أثر، وأن دوره ينحصر في حرب استنزاف، قد تطيح بالأسد، في نهاية المطاف، بثمن كبير.

تعود جذور الجدل إلى النشأة ومسوغاتها، فمبادئ الجيش الحر تأسست على الدفاع عن النفس وحماية المظاهرات السلمية، وتطورت لاحقا إلى عمليات هجومية متعددة الأشكال، لتتجاوز بذلك محدداتها الأولية. قد يكون ذلك التطور أحد محاور الخلاف البارزة، إذ يعتبره فريق المعترضين تطورا بديهيا، يثير مخاوفهم من تبعات انتشار السلاح، ويرى فريق الداعمين، أن تصاعد عنف النظام قد حول المعركة إلى صراع وجودي، فاستدرج رد فعل من جهة الثوار، ولم يكن السلاح غاية بل وسيلة اضطرارية.

لكن، هل يمكن الافتراض أن النظام دون انخراط المكون العسكري في الثورة لم يكن ليلجأ إلى الانتقام من الشعب الأعزل، عبر القتل بالذبح والحرق ودفن الناس أحياء، والتهجير وهدم البيوت، واغتصاب النساء بما فيه من امتهان للكرامة الإنسانية، وخصوصية ودلالة في مجتمعاتنا الشرقية، أم أن الافتراض الأصح أن تلك الممارسات هي بالضبط ما دفعت نحو استدعاء ظاهرة العسكرة؟!

ألم تتزامن بدايات السلاح مع حالة استعصاء أصابت الحراك السلمي المدني، من حيث فاعليته في إسقاط النظام، وإمكانية توسعه أفقيا وعموديا، تحت وابل من الرصاص الحي الذي واجه المظاهرات السلمية؟ وحتى لو تطور الحراك السلمي نحو عصيان مدني شامل على كامل التراب السوري، وهو ما بدا استحالة بسبب عامل المناطقية الذي اتسم به تمرحل الثورة السورية، فإنه من المعروف أن النظام يعتمد عقيدتين في مواجهة أي خطر كياني يهدد أمنه واستقراره، العنف المفرط المتجرد من أي وازع أخلاقي، وتفعيل الصراعات الطائفية والعرقية، وعلى ذلك شواهد كثيرة راهنة وتاريخية، انتهجها الأسدان، سواء في سوريا أو في دول الجوار الجغرافي.

إن الاعتراف بالجيش الحر كمكون ثوري ودعمه، سواء كان ذلك نابعا عن موقف مبدئي، أو موقف براغماتي مستجد، لا ينفي ضرورة الإضاءة على الواقع دون مساحيق تجميلية. فالجيش الحر هو مسمى ضبابي تندرج ضمنه مجموعات مسلحة، مائة على أقل تقدير، مناوئة للنظام وتتبع ولاءات مختلفة، لبعضها مآرب لا تنسجم بالضرورة مع أهداف الثورة، ومن السهل أن تستغل اسمه مجموعات أخرى تحترف الجريمة. وإن كانت المعركة اليوم ضد النظام، إلا أن التوصيف السابق يشكل خطرا، لا يمكن تجاهله، على مستقبل استقرار البلاد، سياديا وسياسيا.

يطرح تطور المكون العسكري إلى جسم لا مركزي التساؤلات عن غياب دور مفترض للمعارضة السياسية، التي يبدو أن تلكؤها في حسم وتوحيد مواقفها من الجيش الحر، واحتوائه، وتنظيمه، ناجم عن سوء تقدير لإمكانية اتساع ظاهرة التسلح منذ بداياتها، عدا عن مخاوف ومصالح لبعض الأطراف. وكان من تفاعل الجدل حول الحر في تلك المرحلة، ضمن أجواء الخلافات السياسية البينية لتشكيلات المعارضة، أن اكتفت المعارضة في محصلة الموقف بتوجيه النقد السلبي لعموم مظاهر التسلح، مما أسهم بتحول العلاقة بين السياسي والعسكري، مع اشتداد عود الأخير، إلى تنافسية ندية.

زاد من تعقيد الوضع، انتقال عدوى التشرذم وآفة التخوين المتبادل إلى العسكر، وتدخل المال السياسي بأسوأ أشكاله، إذ تمول بعض الجماعات السياسية كتائب، وتمول أطراف غير رسمية بالضرورة كتائب ومجموعات أخرى، بعضها ذو طابع متطرف، لا تنضوي تحت مسمى الجيش الحر بشكل مباشر. ومع عدم تبرئة ساحة أي من العسكريين والسياسيين مما آلت إليه الأوضاع، فإن صعوبة توحيد مصادر التمويل تطرح مخاوف جدية حول صعوبة توحيد الجيش الحر، وتفتح المجال أمام تسرب المزيد من العناصر غير المرغوب فيها إلى العمل المسلح، فتتضاءل الفرص في توفير مظلة سياسية تحظى باحترام وقبول حملة السلاح، تسمح بترجمة نتائج العمليات العسكرية إلى مكتسبات سياسية حقيقية.

لقد غيرت تيارات مهمة في المعارضة موقفها المعلن من الجيش الحر، واتفقت سياسيا على دعمه. إلا أن المرحلة الراهنة تشهد تصاعدا متزايدا لمشكلتين: الأولى، تحدث عنها تقرير صادر من لجنة تحقيق أممية، وجه الاتهام لقوات الأسد وميليشيات الشبيحة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، واتهم أيضا مقاتلي المعارضة بجرائم حرب بسبب إعدامات لبعض الأسرى. قلل التقرير من أهمية انتهاكات المعارضة، إذ اعتبر أنها «لم تصل إلى خطورة وتواتر ونطاق» جرائم النظام، وأكد أن «الانتهاكات ارتكبت تنفيذا لسياسة رسمية» للنظام السوري، اللافت للنظر، أن شجبا وإدانة من قيادات في الجيش الحر لممارسات بعض الثوار قد سبق صدور التقرير، وأن الأثر الملموس لتجاوب الثوار على الأرض، يدل على وعي مبشر، رغم أن الوعي وحده غير كاف، إن لم يقترن بضوابط.

أما المشكلة الثانية، فتتعلق بتململ بعض أهالي المناطق التي يدخلها عناصر الجيش الحر، حيث يلجأ النظام إلى أسلوب العقاب الجماعي عبر التنكيل بالمدنيين وتدمير مساكنهم ونهبها في تلك المناطق، سعيا منه لفصم العلاقة بين الثوار والبيئات المكانية والاجتماعية الحاضنة لهم. التكلفة العالية تجاه الأهالي تدفع إلى التشكك في جدوى بعض العمليات في حال خضعت لميزان المكاسب والخسائر. صحيح أن ذلك شأن عسكري تكتيكي بحت، لكنه نتيجة لغياب استراتيجية واضحة لعمليات الجيش الحر، تجعل من الأمر بمجمله قضية تستوجب النقد.

معظم المشكلات المطروحة على صلة مباشرة بهيكلية الجيش الحر ونوعية تسليحه، فهو أقرب ما يكون إلى فصائل مقاومة مسلحة، وتسميته بـ«الجيش» أوحت بأنه مؤسسة عسكرية ذات قواعد منضبطة وصارمة. فاللامركزية في الجيش الحر وغياب هرمية صنع القرار وصعوبة التواصل بين قياداته المختلفة ومجموعاته المبعثرة تفتح الباب واسعا أمام الأخطاء الفردية، وتتسبب بتشتت الاستراتيجية وعبثية التكتيكات، وتزيد من تفاقم مشكلات أخرى راهنة، ومخاوف من تبعات مستقبلية.

خلاصة القول، إن للثورة دينامية تفاعلية في تطوير أدواتها والاستفادة منها، سواء كانت الأدوات سلمية أم عسكرية، والجيش الحر مكون فاعل ورئيسي بحاجة إلى ضبط وتنظيم، الرفض وإضمار العداء له هو رفض للتعامل مع الواقع وإضرار بالثورة، والدعم المطلق والتغاضي عن الأخطاء، هو سير على عقيدة الولاء الأعمى التي أفرزها النظام، وإضرار آخر بالثورة.

يحضرنا هنا مصطلحان للكاتب السوري المعروف ياسين الحاج صالح في تناولهما لموقفين متجانبين من المشكلة الطائفية: «أهل العفة» من يتعففون عن الحديث الطائفي ويتشككون به للالتفاف على بعض المخاوف، و«أهل الإباحة» من يستبيحون التصريح بالطائفية، لجني بعض المكتسبات. يصلح الاصطلاح السابق لتوصيف معظم المواقف المعارضة والمؤيدة للجيش الحر، ومع استثناء المثاليين الذين يتصرفون كما لو أن إدارة الظهر للجبل تعني اختفاءه، فإننا نتفق مع الحاج صالح بأن «الإباحة والعفة موقفان جزئيان، آيديولوجيان، متورطان في مصالح ومواقع خاصة».

* كاتب سوري