التحرش بالمدن!

TT

الصراع الخفي بين الثقافات والسياسات الاقتصادية لا يقتصر على المعارك بين الدول، ولكنه موجود بقوة بين المدن نفسها أيضا، فبينما تتنافس الولايات المتحدة مع الصين وألمانيا وروسيا والهند واليابان، كل بأسلوبه وطريقته وبوسائله، للسيطرة أو التأثير على العالم، هناك مدن أخرى تسعى جاهدة لتكون نقطة الجذب الأولى ونبض قلب الكرة الأرضية؛ فاليوم هناك صراع محموم بين لندن ونيويورك وباريس وهونغ كونغ وطوكيو وسنغافورة وبرلين على هذا اللقب وهذه المكانة.

ولكن يبدو أن الموضوع، وبالأرقام، تم حسمه للعاصمة البريطانية بجدارة واستحقاق، فاليوم تمثل لندن «اقتصادا» لوحدها تحسب درجات ونسب نموه بشكل مستقل عن سائر الباقي البريطاني بشكل دقيق ومدهش، بل إن الداخل اللندني نفسه يحسب بدقة هو أيضا، فهناك ما يطلقه اقتصاد المربع الذهبي في منطقة حي نايتسبريدغ ذات الصيت المعروف بالمباني الفارهة والمحلات الضخمة والمطاعم المميزة، وهي منطقة مقصودة داخل مدينة ناجحة تظل الأموال تتدفق عليها مهما علت علامات الكساد والركود على سائر الاقتصاد البريطاني.

وها هي اليوم لندن تشهد طفرة عقارية هائلة نتاج إقبال أعداد هائلة من رجال الأعمال من القارة الآسيوية، وأيضا من منطقة الشرق الأوسط، وكذلك من روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى، جعل لندن تشهد مشاريع تطوير عقاري لتلبية هذه الطلبات بقيمة تفوق الـ38 مليار جنيه إسترليني. اليوم تحولت لندن إلى نقطة انصهار الحضارات والثقافات الأولى في العالم، لا يوجد عرق ولا دين ولا ملة ولا طائفة إلا ونراه بها، ويمارس الكل فيها حياة طبيعية بلا عقد ولا أذى، وكم كان الفريق البريطاني المشارك في أولمبياد لندن الأخيرة مرآة عاكسة لنتاج ما وصلت إليه هذه المدينة، التي أصبحت رمزا للعولمة، من نجاح.

فشاهد العالم تألق العدّاء من أصول صومالية وهو يحظى بميداليتين ذهبيتين، والبطلة التي تعود لأصول هندية تحقق نجاحات مبهرة هي الأخرى. المدن توظف من الأمم والدول لتخفيف المركزية، فما معنى واشنطن من دون نيويورك ولوس أنجليس، وما معنى روما من دون ميلانو، وما معنى برلين من دون فرانكفورت، وما معنى موسكو من دون سان بطرسبرغ، وما معنى بكين من دون شنغهاي، وما معنى دلهي من دون بومباي؟ والأمثلة غزيرة ولا تنقطع، حتى العالم القديم كان لا بد له من التناغم والتنافس، فكان للبصرة دورها مع عظمة بغداد، وكان لحلب مقامها مع رقي دمشق، وكان للإسكندرية وضعها مع عز القاهرة.

ولكن المركزية والتحكم يقتلان التنافس، وخنق ذلك الأمر المدن الأخرى في مصر لتصبح القاهرة هي «مصر» في رمزية واضحة للتقليل من مكانة المدن الأخرى، كما حدث الأمر نفسه في سوريا التي تحولت فيها دمشق إلى «الشام» لتحمل بذلك نفس الدلالة المرة، والعالم القديم كان يظهر لنا أمثلة شديدة الوضوح عن أهمية نجاح «المدينة»، فالمؤرخون ما زالوا يكررون خاصية تجربة مدينة «البندقية» الرائدة في التجارة والمال، والتي سبقت العالم كمركز مالي صريح، وكذلك الأمر كان في مدينة لاهاي بهولندا، ونفس الشيء تكرر بصور مختلفة في أثينا وروما وإسطنبول على مر الأزمنة.

هناك مدن تموت، وأخرى تولد، وهناك مدن تبعث من جديد، بخارى وسمرقند وطشقند كانت مدنا في قلب طريق الحرير القديم وماتت مع تغير المسارات التجارية وفتح قناة السويس ورأس الرجاء الصالح، وهناك مدن استحدثت من الصفر تماما مثل سنغافورة ودبي وأبوظبي والدوحة وفانكوفر وكيب تاون، وهناك مدن يعاد إنهاضها من ركام الموت مثل كلكتا في الهند ولاغوس في نيجيريا ومكسيكو سيتي في المكسيك. كثير من هذه المدن يعاني من تحديات الإسكان والنظافة وخدمات الصرف الصحي والمياه والكهرباء ووسائل النقل، لأنه من المتوقع قريبا جدا أن واحدة من هذه المدن وحدها ستستوعب 25 مليون نسمة!

المدينة الكبرى قادمة، وهي ستغير أسلوب التفكير والتعايش الاقتصادي والمدني الذي نعرفه تماما.

[email protected]