«إيرانات جديدة».. منطق الدولة الهشة!

TT

فضيحة الترجمة «الفارسية» حدث الأسبوع بالمعنى الصحافي، فالمجال التداولي للخبر انتقل من منصات الإعلام التقليدي؛ ليصبح المادة الخام الأكثر تشكلا على صورة «نكت» وتعليقات ساخرة، لكن دلالات ما حدث على ذلك النحو البدائي الفج؛ يحيل إلى مفهوم الدولة «الهشة»، كأنموذج إيراني يمكن أن يستنسخ بأشكال أخرى في دول ما بعد الثورات التي تقف على أرضية صلبة من التشابه مع مفهوم الدولة الهشة.

منطق الدولة «الشمولية» هو ذاته منطق الأحزاب الشمولية، فمصادر التلقي مغلقة، وآيديولوجيا الدولة - الحزب يتكئ على مبدأ العدو المتوهم الذي يتم قتاله بالشعارات السياسية على حساب الإنجاز على الأرض، فالتزوير للخطاب الإعلامي هو جزء من عملية تزوير أكبر للواقع على الأرض من خلال الأرقام المضللة حول قوة الدولة - الحزب وقدرتها على التدمير واستنفادها لكل طرائق التلويح بالحرب للحفاظ على الحد الأدنى من الصورة الخارجية للدولة في ظل تراجع كبير لحجم التأييد في الداخل.

وبعيدا عن تأملات أخلاقية أو حتى مراجعة لمصداقية إعلام «الدولة الهشة» ذات الطابع الشمولي؛ فإن الجانب السياسي هو المهم.

فمنذ البداية كانت إيران من أكثر الدول تهليلا واغتباطا بحالة «الربيع العربي» على اعتبار أن هذه التحولات في المنطقة ستفرز أحزابا شمولية ذات تاريخ عريق في بناء دولتها الحزبية داخل كيان الدولة الأكبر، ومن هنا كان النظر إلى العامل الطائفي غير ملتفت إليه في طريقة التعاطي الإيرانية مع «الثورات»، وهنا نقطة التباس شديدة لدى شريحة كبيرة من «الثوار بالوكالة»، فهم يقرأون المشهد وفق زاوية دينية لا علاقة لها بالسياسة؛ فلا يرون في الصورة أبعد من كتل سنية شمولية متصاعدة، يمكن أن تهدد الدولة الإيرانية المتمددة خارج حدودها في لبنان وسوريا وغيرهما.

هذه النظارات الدينية التي تستخدم في قراءة تعقيد التحالفات الإقليمية لا تقل سذاجة عن خطأ الترجمة المتعمد، لأنها تحاول أن تستبعد العامل السياسي بعوامل طائفية ذات شعارات دينية، ومن هنا كان التركيز في خطاب الرئيس مرسي على مسألة «الترضي عن الصحابة»، على اعتبار أنها اختراق سياسي خطير؛ بل بعض التعليقات على الخبر صورته على شكل «فتح» سني لإيران، في حين أن المشاركة رفيعة المستوى كانت رسالة مهمة تحتاجها إيران لبعثها إلى إسرائيل بأنها فقدت حلفاءها الإقليميين للأبد كالنظام المصري السابق والنظام التونسي بشكل أقل.

وبإزاء المكتسبات السياسية لمنطق الدولة الهشة؛ فإن كسر الحصار السياسي لإيران، يقابله انتعاش لأسعار النفط الذي سيستمر مع تعثر عودة إنتاج النفط الليبي إلى مستوياته القياسية، وبالتالي لم يتبق سوى انفراجة بشكل ما في الوضع السوري قد تشكل بارقة أمل يقابلها تراجع في الأزمة البحرينية يجعل من إيران تملك أوراق ضغط إقليمية تستطيع التلويح بها للضغط في تعميق طموحاتها النووية وكسب المزيد من التحالفات السياسية في اليمن وأفريقيا.

العداء للغرب حتى في صوره «الهشة» عبر الأحزاب العلمانية والمنظمات الحقوقية وحتى شريحة كبيرة من المجتمعات العربية التي ينعتها خصومها من تيارات الإسلام السياسي بـ«التغريبيين»، هو ما يراهن عليه المنطق الشمولي سواء لدولة هشة سياسيا كإيران، أو حتى لقوى ثورية في طريقها لإنتاج منطق الدولة الهشة بما تحمله من أزمات داخلية، وصورة مزيفة تبعث للخارج للضغط السياسي، هذا التشابه بين منطقين شموليين لا علاقة له بالاختلاف المذهبي بقدر أنه إنتاج لحالة سياسية لها مسبباتها.

في تصريح لقائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري العميد قاسم سليماني قال: «إن الحمية الثورية التي تجتاح مصر وغيرها من البلدان العربية تتمخض عن إيرانات جديدة يجمعها العداء للولايات المتحدة الأميركية»، وأضاف أن «المنطقة تمخضت اليوم عن عدد من الإيرانات الكبرى الجديدة، فمصر إيران جديدة، سواء أردتم أم لم تريدوا».

الإيرانات الجديدة كما يصفها هي كيانات سياسية متطابقة في طريقة تعاطي السياسة، والتي تعتمد ماكينزمات الأحزاب الشمولية، السيطرة على مصادر التلقي، وضرب الخصوم والمنافسين، استنساخ العدو الوهمي على حساب اشتراطات التنمية ودفع عجلة الاقتصاد، فتح جبهات سياسية خارجية على طريقة التدخل السيادي للدول بهدف تجييش الحالة السياسية، وبالتالي تراجع أي استحقاقات في الداخل.

منطق الدولة الهشة، حالة سياسية منغلقة تقوم على أساس العزلة عن العالم - الغرب باعتباره وقودا لصراع سياسي داخلي مع وكلاء مفتعلين للغرب، هذا الغرب الذي يتبدى أمام الفكر الشمولي بعدة أشكال فالمختلف فكريا أو سلوكيا هو بالضرورة معاد لفكر الأمة وثوابتها... إلخ.

على الأرض فإن التحدي الأكبر أمام قوى الإسلام السياسي التي وصلت إلى سدة الحكم، ليس هو التمايز عن الحالة الإيرانية، أو التحول إلى إيرانات جديدة بالمعنى السابق؛ بل هو عدم الوصول إلى حالة «الدولة الهشة» ذات المنطق الشمولي الذي سيصيرها إيرانا أخرى بالمعنى السياسي وليس الطائفي.

نحن أمام نماذج للتعاطي مع السياسة، فبعيدا عن أشكال الحكم وطرائقه ونماذجه التي لا تعني الكثير في الحالة العربية التي لم تخرج تماما من منطق القبيلة إلى مفهوم الدولة الحديثة؛ فإن المهم هو الدخول في العالم الحقيقي بما تعنيه المعاصرة والحداثة وبما تفرضه من تعددية سياسية وتركيز على الجانب الاقتصادي والتنموي واستثمار التنوع الإنساني داخل حدود الدولة القطرية.

وإذا كانت الثورات بما حملته من مكتسبات نوعية للإسلام السياسي، قد سببت ارتباكا كبيرا لدى المثقفين في قراءة تداخلات ما هو ديني وسياسي وطائفي في تعاطي السياسة؛ فإن العودة إلى تأمل الحالة العراقية ما بعد الانسحاب الأميركي الذي كان انسحابا سياسيا وتسليما للعراق على طبق من الأخطاء الكبرى؛ يقودنا إلى فهم أعمق لمعنى «الدولة الهشة» حتى وإن ارتدت عباءة الديمقراطية الواسعة.