حكايتي مع الملكة (8) نفرتيتي.. غدا تعودين

TT

لم يكن الدكتور محمد عبد القادر، رئيس هيئة الآثار المصرية، يدري وهو يغادر منزله في ذلك اليوم شديد الحرارة من صيف عام 1987 متوجها إلى مقر عمله - أنها ستكون المرة الأخيرة؛ فما إن جلس الرجل الوقور إلى مكتبة حتى جاءه خبر إقالته من منصبه وإحالته إلى التقاعد. بالطبع استغرق الأمر بعض الوقت ليفيق الدكتور عبد القادر من هول المفاجأة، وبدأ يهمس لنفسه متسائلا ماذا فعلت؟! حاول الرجل استرجاع ما قام به من أعمال على مدى سنوات إدارته للتراث الأثري المصري عله يجد سببا مقنعا لما حدث، وعندما أعياه التفكير بدأ في جمع أوراقه وأشيائه الخاصة ومغادرة مكتبه وللأبد، وبينما هو في طريق عودته إلى منزله إذا به يتذكر ذلك اللقاء الذي جمعه بالأمس والسفير الألماني والحديث الذي دار بينهما والذي تطرق دون سابق إنذار أو مقدمات إلى قصة رأس الملكة نفرتيتي وكيفية خروجها من مصر، وما كان من الدكتور عبد القادر سوى أنه قال للسفير الألماني إنه يجب على ألمانيا إعادة نفرتيتي إلى وطنها مصر، وإلا قمنا بقطع العلاقات الثقافية بيننا وبينكم! أيمكن أن يكون هذا الحديث هو سبب الإقالة؟! لم يستغرق الأمر سوى عدة اتصالات هاتفية ليتأكد بعدها الرجل أن حديثه مع سفير ألمانيا ورأس نفرتيتي هما من وضعا كلمة النهاية لعمله في الآثار.

علقت هذه الحادثة في رأس كل من خلف الدكتور محمد عبد القادر على المنصب، فقرر بعضهم تحاشي الألمان بالكامل؛ بينما قرر قلة منهم تملقهم وقبول جميع الدعوات المجانية لزيارة ألمانيا والتمتع بجمالها.

وبمجرد أن سنحت لي الفرصة بكوني أصبحت المسؤول عن الآثار، بدأ فريق العمل المعاون لي في تجميع كل ما يخص رأس الملكة وكيفية خروجها من مصر والخداع الذي حدث.. وقمت بعرض الملف كاملا على اللجنة القومية المصرية لاسترداد الآثار المسروقة التي تضم رجالا من خيرة العقول المصرية، ومنهم القانوني والدبلوماسي والأثري؛ واتفقنا على توجيه خطاب رسمي من الحكومة المصرية للمطالبة بعودة الرأس الجميل إلى مصر، وكتب الخطاب بالصيغة الدبلوماسية التي اتفقنا عليها. وتسلم الألمان الخطاب وعندما شاهدوا توقيعي عليه؛ أرسلوا ردهم مطالبين بأن يكون الخطاب الموجه لهم من الوزير المختص؛ وليس من رئيس الهيئة. وتأكدت أن بابا قد فتح من جديد وعلا صوت مصري يطالب بعودة الآثار المسروقة إلى بلادها. وكانت المفاجأة عندما نشرت الصحف الألمانية نص الرد الألماني على خطاب الاسترداد؛ حيث علق أحد الكتاب الألمان المحترمين بمقال رائع بعنوان «ولا تزال الأعمال الاستعمارية مستمرة»، وقال الكاتب إن رد مسؤولي المتاحف يؤكد أن بقايا روح الاستعمار لا تزال موجودة. وتكونت جمعية ألمانية من أنصار عودة رأس نفرتيتي إلى بلدها مصر. والآن وقد تركت المنصب أثق بأن أبنائي الأثريين لن يغلقوا ملف عودة الملكة نفرتيتي إلا يوم عودتها إلى مصر.. متى؟ ربما بعد مائة عام، وربما غدا.. لكن الأمر الأكيد أن الملكة الجميلة سوف تعود.