الأبد والركام

TT

على الصفحة الأولى من «الهيرالد تريبيون» أمس صور لبيل كلينتون في كامبالا ومدن أخرى من أفريقيا، يصفق له الفقراء، ويأمل بعضهم الآخر أن تترك زيارته مستشفى أو مدرسة أو مستوصفا. أهم صور للرؤساء هي التي تؤخذ لهم بعد التقاعد. خرج بيل كلينتون من البيت الأبيض شابا، كما دخل إليه. وانصرف إلى العمل كرجل عادي. مع أنه لم يعد عاديا. إنه رجل انتقل من حاكمية ولاية مزارع الدجاج في أركنساو، إلى حاكمية البيت الأبيض. وفي اليوم الأخير من الولاية الثانية، لم يعد مسموحا له الدخول إلى البيت الأبيض، إلا بدعوة خاصة.

انسَ أنه كان الرئيس الأفضل اقتصاديا منذ 24 عاما، انسَ أنه كان الأكثر شعبية، وتذكر شيئا واحدا: كان مواطنا عاديا، وعاد مواطنا عاديا. قبل عامين تقريبا شاهدت جاك شيراك، متوكئا على عصا في أحد مقاهي السان جيرمان، لا يزعج تقاعده أحد. لو لم تنبهني ابنتي لما لاحظت أن الذي نجلس إلى جنبه هو رئيس وزراء فرنسا ثم رئيسها لعقود. في اليوم الأخير من الولاية، صار يأتي إلى مقهى «لاباليت» على عكاز.

ثمة حضارة في الغرب تعرف باسم «الرئيس السابق» أو الرئيس المتقاعد، خلافا للرئيس الأزلي في زوالات العالم الثالث. يأتي رئيس بغير انتخاب ويبقى بلا دعوة ويرفض الرحيل إلا في الموكب الأخير. ماذا عاد الرئيس علي عبد الله صالح يفعل في صنعاء؟ لقد ربح ونستون تشرشل الحرب ثم انصرف إلى الرسم والرحلات. وأنقذ ديغول فرنسا من النازيين ومن الخونة الفرنسيين ثم ذهب إلى منزله القروي يمدد قامته العملاقة في غرفة القراءة.

لماذا لا يقبل الرئيس بشار الأسد فكرة التقاعد وهو الذي أصبح رئيسا على سوريا في الرابعة والثلاثين من العمر؟ لماذا لا ينصرف مثل بيل كلينتون، إلى رعاية المشاريع، وإلقاء المحاضرات، التي بدأها في أول قمة عربية، عندما شرح لزعماء في عمر أبيه، معاني السياسة العربية؟

سقط لبنان عندما قررت سوريا أن تجدد للرئيس إميل لحود برفع الأيدي. وخسر لحود متعة التقاعد بين جميع اللبنانيين، فلم يعد يزوره أحد سوى مجموعة محدودة من الذين لا يعنون شيئا له أو لسواه وأحيانا حتى لأنفسهم. ماذا تساوي السنوات الثلاث الإضافية، له ولسوريا وللبنان؟ ماذا يخطر له عندما يعرض ماذا حدث للبنان من أجل أن يبقى في بعبدا ثلاث سنوات أخرى، ضد رغبة نصف اللبنانيين على الأقل؟

يرفض الطبع البشري فكرة الأمد المحدود ولذلك فرضها القانون فرضا. أيزنهاور ربح الحرب العالمية الثانية للحلفاء ثم مضى. وهلموت كول أعاد توحيد ألمانيا ثم مضى. ومارغريت ثاتشر أبدعت ثم مضت. والعالم الثالث غارق في دماء الموت وخراب التجديد ويافطات الأبد فوق الركام.