تعقيدات المعضلة السورية

TT

تزداد المأساة السورية تعقيدا كل يوم.. ويأتي تعقيد هذه المأساة من تدخل العوامل الخارجية المحيطة بسوريا سواء كانت عوامل دولية أم عوامل إقليمية. تقديري أنه لو ترك الشعب السوري الثائر في مواجهة جلاّده لأمكن حسم هذه المأساة. هل يتصور أن عدد القتلى من الشعب السوري جاوز العشرين ألفا، وأن عدد الهاربين إلى بلاد الجوار يقترب من ربع مليون نسمة، وأنه ما من يوم يمر دون وقوع مئات القتلى ومئات الجرحى.. أقول إنه لولا العوامل الخارجية سواء منها الدولية أم الإقليمية لكان هذا الصراع الكارثي قد انتهى منذ فترة.

على المستوى الإقليمي، فإن الدولتين النقيضتين في الإقليم؛ إيران وإسرائيل، تتمسكان ببقاء النظام السوري، طبعا مع اختلاف الأهداف لدى كل منهما. وأظن أن هذه المقولة تطرح لأول مرة ولعلها تلقى قدرا من الاهتمام والمناقشة.

والأمر بالنسبة لإيران واضح، ولا يمر يوم دون تصريح من أحد المسؤولين الإيرانيين لدعم نظام بشار الأسد إلى المدى الذي أعلن فيه مؤخرا أن الحرس الثوري الإيراني، وهو القوة الضاربة في إيران، سيقوم بحماية الرئيس بشار الأسد إذا اقتضى الأمر ذلك.

إلى هذا المدى «تنحاز» إيران للحكم في سوريا حتى ولو كان ذلك الحكم يغتال المئات من شعبه كل يوم من غير رحمة. هذا عن إيران؛ وهو واضح ومفهوم، لأن سوريا الأسد هي نافذة النفوذ الإيراني في العالم العربي بعد أن حالت السعودية دون انتشار هذا النفوذ الإيراني في منطقة الخليج العربي.

لكن ماذا عن إسرائيل العدو اللدود لإيران والعدو التاريخي للأمة العربية.

جبهة الجولان السورية هي الجبهة الوحيدة في الجوار الإسرائيلي الآن التي لم تطلق منها رصاصة واحدة تجاه إسرائيل على مدى ما يقرب من أربعين عاما، في حين أن كل المناطق المجاورة لإسرائيل حتى في لبنان أو الأردن أو مصر لم تسلم من مناوشات واحتكاكات بين الحين والحين، ذلك فضلا عن فلسطين المحتلة والمقاومة الفلسطينية بأنواعها المتعددة والمتصاعدة تجاه إسرائيل.

الجبهة الوحيدة الآمنة بالنسبة لإسرائيل هي هضبة الجولان - السورية المحتلة - لأن نظام بشار الأسد يدرك مدى خطورة أن تتضرر إسرائيل من هذه الجبهة. لهذا السبب، أقول إنه كما كان حسني مبارك كنزا استراتيجيا لإسرائيل في تفريغه سيناء وفي خضوعه لكل ما تمليه عليه إسرائيل وأميركا، فإن نظام بشار الأسد يعتبر أيضا كنزا لكل من النقيضين؛ إيران من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى، مع اختلاف الأسباب.

هذا عن القوى الإقليمية؛ فماذا عن القوى الدولية؟

إذا نظرنا إلى مجلس الأمن، فإن الذي حدث في اجتماعه الأخير الذي كان مقررا أن تنظر فيه المشكلة السورية، لم يحدث مثله قط بالنسبة للدول الخمس دائمة العضوية.. وقفت الصين وروسيا في ناحية ترفضان أي تدخل في الشأن السوري، ووقفت بريطانيا وفرنسا في الجهة المقابلة تهددان بأن تصاعد العنف في سوريا قد يبرر التدخل العسكري، على حين أن العضو الخامس من الأعضاء الدائمين وهو الولايات المتحدة تمنعه ظروف الانتخابات الرئاسية التي أصبحت على الأبواب من أن يتخذ موقفا من هذا الصراع الدائر بين سفاح لا يرحم وشعب أبيّ يبحث عن حريته.

ويزيد من تعقيد الوضع موقف تركيا في الشمال وموقف لبنان الذي يدخل تقريبا في حضن سوريا.. تركيا ترفض صراحة ما يجري في سوريا وقد تدفق عليها مئات الآلاف من المهاجرين.. آوتهم قدر استطاعتها وطاقتها وهي تطالب الآن بمنطقة عازلة.

وكما أن إيران طرف أساسي في المعضلة، فإن تركيا طرف أساسي فيها أيضا على اختلاف الموقفين وتناقضهما. أما لبنان، فهو أحد الضحايا المباشرين لهذا الصراع المرّ، خاصة منطقة طرابلس في شمال لبنان حيث تتدفق الهجرة السورية على هذه المنطقة التي لا تتسع لمهاجرين جدد. ويزيد الأمر تعقيدا في لبنان - المسكين - أن حزب الله، وهو قوة لا يستهان بها في ظروف لبنان، يساند النظام السوري، لا عن قناعة، ولكن اتباعا لما تراه إيران.

في هذا الجو المكفهر المضطرب تبدأ مهمة الدبلوماسي المخضرم الأخضر الإبراهيمي بصفته مبعوثا للأمم المتحدة وللجامعة العربية لمحاولة إيجاد حل للمعضلة السورية. وكلنا يرجو أن يقدر للأخضر الإبراهيمي قدر من التوفيق يجعله يقترب من حل للأزمة التي فشل في حلها المبعوثون السابقون. وقد يجوز لنا أن نتساءل عن مدى تقديرنا لاحتمالات نجاح الأخضر الإبراهيمي.

من الناحية الإنسانية والعاطفية، فإن الشعب السوري ذاق مرارات لم يذقها أحد من الشعوب العربية التي خاضت ما قيل له «الربيع العربي» في السنتين الماضيتين.. لم يلق شعب ما يلقاه الشعب السوري، ولم يعاند نظام ويكابر ويتمادى في القتل والتنكيل قدر ما فعل ويفعل نظام بشار الأسد في سوريا. والشعب السوري عزيز علينا جميعا.. من هنا، فإن كل عواطفنا تتوجه بالدعاء بنجاح مهمة الأخضر الإبراهيمي.

وكذلك من ناحية أخرى إنسانية وشخصية، فإن الأخضر الإبراهيمي له تقدير في نفوس جيلنا من المصريين، الذي دخل الحياة العامة واكتوى بنارها في الفترة التي كان فيها الأخضر سفيرا للجزائر في القاهرة. وكانت السفارة الجزائرية وبيت الأخضر الإبراهيمي منتدى لنا جميعا نلتقي فيه.. نتناقش ونتسامر ونأكل الأكل الجزائري ونحلم بأمجاد ثورة المليون شهيد. لهذا كله، نرجو للأخضر الإبراهيمي أن يوفق في ما لم يوفق فيه غيره.

وقد فوجئت بعد كتابة هذا المقال بأن الأخضر الإبراهيمي صرح بأن مهمته شبه مستحيلة. فهل إلى ذلك من سبيل؟ هذا هو السؤال العسير.

أمس فقط قبل كتابة هذه السطور صرح وزير الخارجية الروسي بأن الذين يتوقعون أن يبدأ بشار الأسد بوقف العنف.. هؤلاء، سواء كانوا من الدول الأجنبية أم من الدول العربية أم من السوريين أنفسهم، يعتبرون في نظر وزير الخارجية الروسي من الواهمين. وهو لا يقول هذا الكلام يقينا من عندياته؛ وإنما يقوله من الواقع الذي يعرفه جيدا بحكم الاتصال القائم بين نظام بشار وكل من الإدارتين الروسية والصينية.

الواضح أن بشار الأسد لا يريد لهذه المذبحة أن تنتهي قبل أن ينتهي الشعب السوري كله عن بكرة أبيه. وهل تستحق سوريا كل هذا العذاب والمرار.. هل تستحق دمشق وحلب وكل مدن الشام الحبيبة العزيزة هذا الخراب وهذا الدمار؟!

ما أظن أن هناك عاقلا يقول مثل هذا القول.

وقد دخل الصراع بين الثوار وسلطة بشار طورا جديدا.. ذلك أن الثوار بدأوا يهاجمون مطارات ويسقطون طائرات ويستولون على مبان حكومية مهمة، وكثرت الانشقاقات والهروب من صفوف النظام.

المشهد اليومي في سوريا يزداد كآبة: كل يوم قتلى بالمئات ومهاجرون بالآلاف وانشقاقات في صفوف الجيش النظامي وبين رجال السلك السياسي، وحتى بعض سدنة النظام نفسه بدأت ضمائرهم تئن وقلوبهم لا تحتمل، فآثروا السلامة ورحلوا عن البلاد والعباد.

هل يمكن أن تستمر الأمور على هذا النحو؟

ما أظن ذلك، وأظن أن بشار الأسد وهو يخلو إلى نفسه - ولا بد أن يخلو إليها أحيانا - يفكر في أي المصائر ينتظره: هل مصير زين العابدين بن علي، أم مصير مبارك، أم مصير علي عبد الله صالح؟ وبطبيعة الحال، فإنه يستبعد من مخيلته مصير معمر القذافي.. والله وحده هو الذي يعلم المصائر.

لكن نسأل الله أن ينقذ سوريا الحبيبة. وليس ذلك على الله بعزيز.