اعتداءات «أخوية»

TT

مهما كانت مبررات سوريا لاعتداءاتها الروتينية على البلدات اللبنانية الحدودية، وخصوصا بلدات عكار، لا بد من ملاحظة أن هذه الاعتداءات لا تزال، حتى الآن على الأقل، اعتداءات «أخوية» مدروسة عسكريا، ومحسوبة سياسيا.

بالمنظور العسكري يبدو الهدف الرئيسي للاعتداءات ترهيب أهالي البلدات الحدودية اللبنانية من التعامل مع عناصر «الجيش السوري الحر» أو توفير ملاذ آمن للسوريين الفارين من وطن النظام الأسدي.

وعلى خلفية كون عكار أحد «الأقضية الأربعة» التي سلخها اتفاق سايكس - بيكو عن سوريا وألحقها بـ«لبنان الكبير»، قد يجوز الافتراض بأن النظام السوري لا يشعر بأي حرج من معاملة أبناء القضاء «المسلوخ» على قدم المساواة مع أبناء المحافظات السورية الأخرى.. ومن ساواك بنفسه فما ظلم.

أما بالمنظور السياسي فغير خافٍ أن وتيرة الاعتداءات السورية على عكار، رغم قساوتها، ما زالت «محسوبة» بحيث لا تحرج الرئيس نجيب ميقاتي فتخرجه من السراي الحكومي في وقت لم تعد تسمح فيه الظروف الإقليمية ولا اللبنانية بأن يفرض حليف دمشق التقليدي، حزب الله، على اللبنانيين حكومة أكثر «مراعاة» لنظام الأسد من الحكومة الراهنة.

وبالمقابل، وحتى الآن على الأقل، يبدو أن حكومة الرئيس ميقاتي تتعامل مع الاعتداءات السورية بنفس المنطق «الأخوي» وكأن هاجسها أن لا تنأى بنفسها عن سياسة «النأي بالنفس» إلى حد قد يعرضها لتهمة التعاطف مع الثورة السورية. وعليه، ورغم أنه من الإنصاف أن تحسب للرئيس ميقاتي سابقة الطلب من سفير لبنان في دمشق توجيه «رسالة عاجلة» إلى وزارة الخارجية السورية حول الاعتداءات الأخيرة على القرى العكارية، فإن مضمون الرسالة لا يتجاوز «إبلاغ» دمشق بأن هذه الاعتداءات قد تتسبب في «تداعيات سلبية» على... «الإجراءات الأمنية التي اتخذها الجيش اللبناني للمحافظة على الاستقرار والهدوء على الحدود»، أي بتعبير أكثر وضوحا: على أمن سوريا نفسها.

ويزداد هذا الطابع «الأخوي» للخلاف اللبناني - السوري وضوحا بعد ما كشفته صحيفة لبنانية عن أن قرار توجيه رسالة «الإبلاغ» إلى دمشق جاء حصيلة تنسيق بين رئيسي الجمهورية والحكومة، كان هدفه «تكريس حق لبنان في دفاعه عن أرضه وشعبه من دون إثارة أي أزمة مع الجانب السوري».

إذن، «مراعاة» الجانب السوري لا تزال - حتى إشعار آخر - عنوان المرحلة، وعليه ستكون مطالبة كتلة نواب «14 آذار» بطرد السفير السوري لدى لبنان وتعليق العمل بالاتفاقات الأمنية الموقعة بين البلدين «آخر العلاج» لعقدة العلاقات اللبنانية - السورية «الأخوية» في السراء والضراء السورية.

ولكن استمرار الاعتداءات السورية دون أي احتساب لتداعياتها المحتملة على مستقبل علاقات «الشعبين الشقيقين» لا يخدم مصلحة أي من الشعبين، خصوصا أنها تتم في وقت يعاد فيه رسم الخريطة السياسية - الإثنية - المذهبية لمنطقة الشرق الأوسط في ما قد يكون مقدمة لتجاوز كيانات اتفاقية سايكس – بيكو وإعادة رسم خريطتها الجغرافية أيضا.

دقة المرحلة التي يمر بها لبنان باتت تستدعي التعامل مع الأحداث بمقاربة وطنية أكثر منها سياسية رغم أن من رابع المستحيلات دعوة اللبنانيين إلى تناسي خصاماتهم السياسية.

لو خلصت نيات اللبنانيين، كل اللبنانيين، لجعلوا من الثورة السورية منطلق «ربيع» سلمي لبلدهم يعيد إلى التداول تسميته السابقة بـ«سويسرا الشرق». وقد تكون البداية المثلى لإعادة صياغة الكيان السياسي اللبناني في عودة الجميع إلى طاولة الحوار الوطني، ولكن بروح عالية من المسؤولية التاريخية، على أن تكون طاولة الحوار مشرعة الأبواب على كل مشكلات لبنان وعقده، بدءا بعقدة العقد، السلاح غير الشرعي، وانتهاء بآلية علاقته بجارته العربية الأقرب، سوريا... هذا إذا توخى اللبنانيون أن لا تنتقل، من جديد، «حروب الآخرين» إلى أرضهم فيتكرر سيناريو الحرب الأهلية السابقة ومآسيها ولم يمضِ على انتهائها أكثر من عقد ونيف.