5 آلاف متر و10 آلاف ساعة

TT

منذ الستينات، ظهرت وغابت في لبنان صحف ومجلات كثيرة. وكان نموذج الصدور والغياب واحدا تقريبا: صحافي يعطى فجأة مالا كثيرا، من دولة أو من صديق ثري، لكي يسعد نفسه ويسعد عقد صديقه، أو يخدم سياسة الدولة الممولة.

مع استثناءات نادرة جدا، كان الصحافي الجديد يذهب بشيء من المال إلى مطبوعته وبالباقي إلى حي القمار في الكازينو أو حي النساء في الزيتونة أو كليهما معا. وبعد قيل يبدأ في الاستدانة، ثم يبدأ في عدم التسديد، ثم يتوقف عن دفع أجور العاملين، ثم يمضي بقية العمر متحدثا عن أمجاد حي النساء.

لم يذهب غسان تويني إلى الكازينو أو إلى الزيتونة. كانت تأتي إلى داره مداخيل كثيرة، يستثمرها في «النهار». اجتذب إلى مؤسسته أفضل رجال الصحافة والإدارة. اشترى أفضل المطابع والورق. اشترك في أهم وأفضل وأغلى مصادر العمل الصحافي، ولم يتأخر يوما في تسديد راتب. ويعود إليه رفع مستوى رواتب الصحافيين ومستوى الصحافة نفسها.

عمر «النهار» الآن ثمانون عاما. لم تغب حتى في ذروة الحرب، ولم تخفض مستوى الورق والطباعة بسبب طاولة القمار. وكان هناك سبب أكثر أهمية: غسان تويني كان يطبق على نفسه مبدأ العشرة آلاف ساعة.

في عام 1960 ذهب أعضاء فرقة «البيتلز» للغناء في هامبورغ، مدينة باهتة في شمال ألمانيا. كانت الفرق الأخرى تتعب من الغناء و«البيتلز» لا يتوقفون. وبعد 273 يوما تبين أنهم عملوا 10 آلاف ساعة في ما بينهم. ومن المدينة الباهتة أصبحوا أشهر فرقة في العالم، ومصدرا من مصادر الدخل في بريطانيا. وإذ تقرأ في سيرة ثري مثل كارلوس سليم أو وارن بافيت، الذي بدأ العمل في الثامنة من العمر، تجد أن السر الأول هو مبدأ العشرة آلاف ساعة.

عندما فاز الصومالي محمد فرح بسباق الخمسة آلاف متر في الأولمبياد قلت في نفسي إنه لا بد أن يكون وراء الخمسة آلاف متر عشرة آلاف ساعة، وإلا لكان قرصانا في بلاده ينام في النهار ويسرق في الليل. لا أعرف ناجحا لم يعمل بمبدأ العشرة آلاف ساعة، ولا أعرف فاشلا إلا وهو ينام حالما يربح جائرة اللوتو. الذين غابت صحفهم في لبنان خلال نصف قرن غابت معها أسماؤهم وذكراهم، إلا عند رفاقهم من زوار الكازينو والزيتونة. يذكرهم أيضا مئات العاملين الذين عادوا إلى عائلاتهم من دون رواتبهم. بعضهم عامل الصحافة على أنها أداة نصب على الفقراء وليس على الأغنياء وحدهم.

العكس كان صعبا، لكنه كان ممكنا، كما قال محمد فرح، أو كما أثبت غسان تويني. لذلك هو ليس فخر «النهار»، بل فخر الصحافة اللبنانية. وبالنسبة إلى الألوف هو اعتزاز لبنان. فقد منعته أخلاقه من أن يصرف أموال الأثرياء أو الفقراء على الزيتونة أو على طاولات الكازينو. وإذ أعرض في ذاكرتي نصف قرن من صحافة لبنان فإنني أحاول جاهدا تذكر بعض من مرت عليه، وأحمد الله على من مر بها مثل غسان تويني.