مسلسل التفتيت: في تونس ضجة بين الحنابلة والمالكية!

TT

إذا جاز لنا أن نتخيل فنستدير بالزمن إلى حيث عاش الإمامان الجليلان: مالك بن أنس وأحمد بن حنبل، فيمكن بهذا الخيال، أن نتصور حوارا قد جرى بين الإمامين:

قال مالك: يا أحمد: كيف بي وبك إذا قلدنا الناسُ بعد موتنا؟

قال أحمد: ولكنا، كما تعلم، قد برأنا ذمتنا من هذه التبعة، فقلت أنت: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، كل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه».. وقلت أنا «لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا».

قال مالك: صدقت.. لكن الناس قلدونا على الرغم مما حذرناهم منه، وبرئنا منه.

قال أحمد: لا حول ولا قوة إلا بالله.

قال مالك: بل إن الذين ادعوا تقليدنا تعصبوا تعصبا شديدا لمذهبينا يكاد يفصم عرى أخوة الإسلام بينهم.

قال أحمد: إني داع فهل لك أن تؤمن على دعائي: اللهم إن مالكا بن أنس وأحمد بن حنبل يبرآن إليك من تعصب الأتباع لما ذهبنا إليه من نظر وفقه في دين الله، فإن دينك الحق أوسع من أن يحصر فيما ذهبا إليه».

وللربط بين تلك الصورة التاريخية وبين واقعنا الراهن نقول: إنه في تونس جرت ملاحاة بين مجموعة ممن يسمون «السلفيين» وبين عدد من أتباع مذهب الإمام مالك (وهو المذهب المعتمد عند أهل تونس). وقال بعض هؤلاء الأتباع المالكية: إن هؤلاء السلفيين يريدون الطعن في مالكيتنا التي انتهجناها وتواطأنا عليها جيلا بعد جيل عبر قرون مديدة.

وهذه قضية كبيرة تستحق طرقا علميا وفكريا من زوايا كثيرة:

أولا: زاوية «النسبة» إلى السلف، ذلك أنه حيث يطلق لفظ سلف فإنه ينتظم فيما ينتظم الأئمة الأربعة: أبا حنيفة، ومالكا، والشافعي، وأحمد بن حنبل.. وهذا الترتيب مؤسس على حقيقة «الوجود الزمني» لهؤلاء الأئمة فأسبقهم في الوجود الزمني أبو حنيفة، يليه مالك، يليه الشافعي، يليه أحمد بن حنبل، رضي الله عنهم جميعا. وبناء عليه، فإن الإمام مالك هو من «سلف» الإمام أحمد.. وهكذا، فإن السلفية لا تحصر في الإمام أحمد ولا في أتباعه الحنابلة، لأن العام لا يحصر في خاص إلا بدليل لا يرقى إليه شك.. والدليل ها هنا «منعدم» بالبداهة، وبالتحقيق العلمي.

ثانيا: زاوية أن «لا خلاف» قط بين هؤلاء الأئمة في أصول الاعتقاد التي يصح بها الإيمان، وتتحقق بها النجاة بإذن الله وعفوه، فهم جميعا يحملون في قلوبهم وعقولهم عقيدة أهل السنة والجماعة في هذا المجال كما سنرى:

1) في القرن الثالث الهجري حرر أبو جعفر الطحاوي الإمام الحنفي المعروف عقيدة الأحناف. وهذه هي عبارته في مقدمة عقيدته: «هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي. وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله بن الحسن الشيباني، رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به لرب العالمين».. ثم أخذ يؤصل العقيدة في الله وأسمائه وصفاته، وفي القدر، وفي القرآن، وختم النبوات، والبعث، والصحابة.. إلخ.

2) ومن قبل أصل الإمام أحمد بن حنبل هذه العقيدة الإسلامية البهية في تلك المسائل جميعا.. ثم جاء الإمام اللالكائي فأعاد تحرير عقيدة أحمد وعقائد: الثوري، والأوزاعي، وابن عيينة، وابن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وابن جرير الطبري وغيرهم من الأئمة الأعلام، وذلك في كتابه الموسوعي «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة».

3) ثم جاء أبو زيد القيراوني (نسبة إلى قيروان بتونس) وهو إمام مالكي نحرير جهبذ، فشرح لأطفال المسلمين عقيدة أهل السنة والجماعة في مقدمة كتابه «الرسالة». وقال لمن طلب منه ذلك: «فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة، وما يتصل من ذلك الواجب من السنن مؤكدها ونوافلها ورغائبها، وشيء من الآداب منها، وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وطريقته، مع ما سهل سبيل ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين، وبيان المتفقهين، لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان، كما تعلمهم حروف القرآن، ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ما ترجى لهم بركته وتحمد لهم عاقبته».. ثم طفق يشرح عقيدة أهل السنة والجماعة، كما فعل من قبل، بالضبط أحمد بن حنبل، وأبو جعفر الطحاوي.

إن التطابق تام بين هؤلاء الأئمة في تأصيل مسائل العقيدة، ليس في المضامين فحسب، بل في «العبارة» كذلك، حتى لكأن لجنة واحدة صاغت هذه العقيدة: في وقت واحد، وفي نفس واحد!!

ولنأخذ، كمثل، التطابق في قضية «الامتناع عن تكفير أحد من أهل القبلة»:

أ) يقول الإمام أحمد بن حنبل: «لا نكفر أحدا من أهل التوحيد وإن عملوا بالكبائر. ومن زعم التكفير بالذنوب فقد زعم أن آدم كافر حين أخطأ، وأن إخوة يوسف كفار لأنهم كذبوا على أبيهم».

ب) ويقول الإمام الطحاوي الحنفي: «ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب».

ج) ويقول الإمام القيرواني المالكي: «لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة».

فلماذا المناكفات والمناطحات والمخاصمات في أمر انعقد عليه إجماع الأئمة، وتلقته الأمة بالاقتناع والرضا والقبول؟

إن من الصدق والفقه في اتباع أولئك الأئمة لزوم ما حرروه من عقيدة جامعة للقلوب، مانعة من الشقاق والفرقة.

لا إله إلا الله.. لماذا يصيح أناس في تونس وغيرها، يا لمذهب أحمد.. ويصيح آخرون: يا لمذهب مالك.. على حين أن الإمامين الكبيرين يقتبسان من مشكاة واحدة، وينهلان من ينبوع واحد: رائق وحلو؟!

ثالثا: زاوية أن هذا «الخلاف المفتعل» يخدم استراتيجية تفتيت الأمة وتمزيقها عقائديا وفكريا، سواء علم المتورطون في هذا الشقاق المجنون أو لم يعلموا، إذ إن نتيجة العلم والجهل واحدة وهي: تفتيت أمة المسلمين.

للمستشرق الشهير هاملتون جب مقولة غريبة وهي: تسبيب مشكلات العرب والمسلمين وتخلفاتهم بما سماه «العقلية الذرية»، بمعنى أن «العقل الإسلامي» لا يستطيع النظر إلى الأمور إلا نظرة «متذرية»، أي مفتتة إلى ذرات سائبة: لا يربطها رابط ولا سياق ما.

وقد زاغ جب عن المنهج الموضوعي حين رد هذه العلة إلى الإسلام ذاته، وهو زيغ سببه الجهل بمنهج الإسلام. فمن خصائص هذا المنهج أن يعلم أتباعه على جمع الأجزاء أو الظواهر المتماثلة في سياق واحد، ومفهوم مشترك، وهو منهج نجد دلائله:

أ) في علم أصول الفقه عند المسلمين «القياس مثلا».

ب) ونجده عند علماء المسلمين في «الكونيات».. والنموذج الموضوعي المحقق الموثق في هذا الحقل هو منهج الخوارزمي في حل المعادلات التربيعية، وطريقته الهندسية في إثبات المعادلات البسيطة.. فمنهجه هذا يعتمد - في الأساس - على التفكيك والإعادة والربط وجبر النواقص، ومن أهم كتبه التي تنظر لهذا المنهج وتطبقه كتاب «الجبر والمقابلة» الذي استفادت منه النهضة الأوروبية الحديثة بعد أن ترجمته إلى لغاتها في القرن الثاني عشر الميلادي.

هذان مثالان قطعيان يبرهنان على أن الإسلام يزود المسلمين بمنهج علمي وعقلي ذي رؤية مترابطة متماسكة، غير مفتتة ولا متذرية.

وإذ ننقض كلام جب عن الإسلام ذاته، فإن شيئا من كلامه ينطبق على واقع المسلمين المفتت والمتذري.. فالمسلمون اليوم هم الذين يفتتون أنفسهم إلى طوائف وفرق وشيع.. بل يفتتون أنفسهم إلى مزق ونثارات داخل المذهب الواحد، كما بلغنا عن الملاحاة الحامية بين أهل العقيدة الواحدة في تونس وغيرها.