غروب عصر الابتكارات

TT

الأحد الماضي كانت جنازة أشهر رواد الفضاء نيل آرمسترونغ صاحب القفزة الإنسانية العملاقة على القمر، وسبقه إلى العالم الآخر ببضعة أشهر ستيفن جوبز مبتكر هندسة كومبيوتر «أبل».

هل رحيلهما ينذر بغروب عصر الابتكار وعظمة الهندسة الميكانيكية والإلكترونية والإنجازات العلمية والنهضة في التعليم والمعارف الإنسانية ورفع مستوى المعيشة؟

عصر بدأه جيمس واط وجورج ستيفنسون بتسخير البخار المولد من حرق الفحم في تشغيل المحركات والقاطرات وما تبعها من اختراعات كمحرك الاحتراق الداخلي كـ«الديزل»، ثم القوة النووية ومكوك الفضاء «كولومبيا»، والكومبيوتر بتكنولوجيا الـ«أندرويد».

في قرنين (من عمر إنساني يقارب مليوني عام) تقدمنا كبشر من التنقل بعربة تجرها الحيوانات إلى السفر بطائرات تفوق سرعة الصوت، ومن تسخين الطعام على كومة من الحطب المشتعل وأفران الطين إلى إنارة المدن بالذرة، ومن الإبحار بسفن شراعية من شواطئ أوروبا لاكتشاف العالم الجديد إلى مركبات فضاء تدفعها الصواريخ كـ«أبوللو» التي هبط بها آرمسترونغ على القمر.

استثمارات الرأسماليين برؤيتهم المستقبلية في العلوم والمدارس والاختراعات وتمويل بعثات الاستكشاف ومعامل الأبحاث كانت محرك تشغيل المخترعين وأصحاب مواهب الابتكار، وتبعها فتح الأسواق واستثمار فائض الأرباح في نمو مستمر، فارتفعت مستويات المعيشة والتعليم والدخول للملايين لترتقي المخترعات بنظام حياتهم، بعد أن كان الدفء وامتلاء البطن بطعام صحي حكرا على الأرستقراطيين.

فائض الثروة وضمان الدخول طور نظما ضرائبية مكنت الحكومات (التي يحاسبها دافع الضرائب في صناديق الاقتراع، فرأسمالية حرية السوق والديمقراطية البرلمانية متلازمتان) من توفير خدمات التعليم والصحة ومساعدة الشعوب الأقل حظا.

تتعرض إنجازات أعظم قرنين في تاريخ البشرية للاندثار من خطرين: «complacency» (التكاسل بالرضا بما هو موجود)؛ وتأثير الآيديولوجية على ذهنية الابتكار.. التكاسل بالاكتفاء بتزويق إنجازات الأجداد من دون ابتكار الجديد. فنشهد في مصر مثلا بنايات سكنية قبيحة المعمار فوق أراض استثمر الفلاح المصري آلاف السنين في إصلاحها، بدلا من مد السكة الحديد والمرافق إلى مناطق خارج المدن لبناء أحياء جديدة تخلق فرص عمل.

في القرن الـ19، عصر الابتكار وحفر قناة السويس، لم يعتمد الخديو إسماعيل على ضفاف النيل، بل دعم مشروع البارون إمبان في مد المرافق والمواصلات إلى صحراء شرق القاهرة لبناء حي مصر الجديدة، بجهود آلاف المساجين، فتدربوا على مهن ومهارات جديدة، ومولت الدولة ورشهم الحرفية بعد العفو عنهم، فكانت نواة الصناعة المصرية الحديثة.

الأيديولوجيات الشمولية خطرها تفتيت الثروات وتعطيل مراكز الإنتاج الاقتصادي بحجة عدالة التوزيع. الاشتراكية الشيوعية والأوتوقراطية الثيوقراطية (الدينية) واليسار الفوضوي يعادون العولمة والتجارة الحرة. أبناء الميسورين من الطبقات العليا والوسطى يفضلون المظاهرات والاحتجاجات ضد قمة الدول الثماني والتجارة الحرة على البحث العلمي أو الاقتراض من البنك لتمويل صناعات جديدة. آيديولوجية البيئيين «الطاقة الخضراء» أكبر عملية نصب باعت الترام للحكومات والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي رغم غياب القضبان التي يسير عليها الترام الخيالي.

«فهلوية» البيئة يشاركهم المصلحة بيروقراطيون (سماهم ماركس «الفئات الطفيلية») أتقنوا صناعة تخويف الناس بخرافات كثقب الأوزون، والتسخين الحراري، وذوبان القمم الثلجية، منذرين بفيضان يعجز نوح عن إنقاذ زوج واحد من الكائنات منه (وبعد أربعة عقود لم نشاهد قطرة). فرض الساسة ضرائب «حماية البيئة» لدعم صناعات وهمية (مملوكة لفئات طفيلية) للطاقة الخضراء، بنسخة من طواحين هواء كانت تطحن الغلال «ببلاش» في القرون الوسطى، بينما تكلف طواحين الاتحاد الأوروبي كل بيت بريطاني 300 دولار إضافة سنوية لفاتورة الكهرباء، ولا تولد طاقة تكفي لتحريك حصان لعبة يركبه دون كيشوت القرن الـ21.

العالم يتذكر اليوم مخترعات القرنين الماضيين كالآلة البخارية ومحرك الديزل ومولد الكهرباء وجهاز التكييف والمحرك النفاث والمفاعل النووي (ابتكار العالم المجري ليو زيلارد عام 1933 في معامل البحرية في لندن)، فماذا ستذكر كتب التاريخ بعد قرنين من الآن من «ابتكارات» عصر الطاقة الخضراء وفهلوة البيئة واشتراكية اليسار وولاية الفقيه؟!

تصميمات رفضها بسخرية مخترعو القرن الـ19، وحتى محرك السيارة الكهربي المزدوج اخترعه لونهر بورشيه عام 1896 (مثلما نبهني الصديق الدكتور فهد النوري تصحيحا لما ورد الأسبوع الماضي)، وبعد عرضه في باريس 1900 لم ينتج صناعيا على نطاق تسويقي لأنه غير عملي يحتاج لبطاريات يلزمها شحن كهربي متواصل من مصدر مستمر لا يوفره بنظافة للبيئة وثمن رخيص إلا محطات الطاقة النووية التي يتظاهر البيئيون مطالبين بإغلاق الـ439 الموجودة منها حول العالم.

ظهرت شيزوفرينيا الآيديولوجيين في تناقض الطاقة الخضراء واشتراكية توفير الرزق للبروليتاريا. صناعة التخويف البيئي للفهلوية أغلقت آلاف مناجم الفحم ومحطات توليد الطاقة ليستلقي ملايين العاملين على رصيف البطالة، الذي يتظاهر أمامه أصحاب آيديولوجية الطاقة الخضراء وحلفاؤهم الاشتراكيون مطالبين الدولة بتوفير خدمات ومساكن للعاطلين (بمزيد من الضرائب). ألم يكن الأكثر واقعية تمويل البحث العلمي لابتكار وسائل لتسخير عوادم المحروقات في الصناعة؟

للأسف ذهنية ابتكار واختراعات القرنين الماضيين غائبة عن عقول بيروقراطيي البيئة والزعامات المؤدلجة ثيوقراطيا المنتخبة «ديمقراطية» بعد ثورات الربيع!

ابتكارات واستثمارات عهد الخديو إسماعيل كانت القاعدة الصناعية التي بنى عليها طلعت حرب الصناعات التي شيدت اقتصاد مصر الحديث (كانت بريطانيا وعدد من بلدان أوروبا مديونة لمصر بمئات الملايين عشية انقلاب 1952). ذهنية تصنيع طلعت حرب دهستها الاشتراكية الناصرية بتأميم ما بناه قادة الصناعات المصرية تحت شعار تقسيم خير مصر بين سكان يفوق عددهم ستة أضعاف السكان في سنوات نهضة مصر.

«مصر كلها خير، لكن مبارك سرق ثرواتها».. هراء يردده ببغاوات الثورة جاهلين بغياب التوازن بين استهلاك 88 مليون مواطن وما يوجد من ثروات طبيعية ذات وزن تصديري أو تصنيعي كالحديد أو الماس واليورانيوم، أو الغاز والبترول (بفائض كالذي أتاح لبلد لا يكفي كل شعبه لملء غرف فنادق القاهرة من تطويع إرادة جماعة الحكم في مصر).

لو كان في القاهرة اليوم من يفكر بعقلية طلعت حرب باشا لرقدت الآيديولوجيات الشمولية (كالاشتراكية الناصرية والبعثية القومجية العروبية والثيوقراطية الدينية) في مزبلة التاريخ، وكان البرلمان (أين هو بالمناسبة؟) أصدر قوانين تنفتح على العالم ولا تعاديه، وتنير العقول لا تغلقها، وتطمئن المستثمر على أرباحه، وبنوك العالم على تمويل مشاريع سياحية على الشواطئ ومحطات توليد الطاقة من الشمس. لكن يبدو أن مصر سبقت الغرب في سباق دق المسامير في نعش عصر الابتكارات والاختراعات والتقدم.