في نقد السلاح

TT

مرت الثورة السورية منذ انطلاقها بثلاث مراحل رئيسية متمايزة، بدأت في أولها على شكل مظاهرات سلمية مدنية، ركزت راياتها على الوحدة الوطنية، وعبرت شعاراتها عن مطالب الشعب المحقة في الحرية والكرامة والديمقراطية. ولقد استمرت هذه المرحلة ما يقارب الستة أشهر. وفي المرحلة الثانية بدأ تزاوج بين المظاهرات السلمية والدفاع عن النفس وحماية المتظاهرين بقوة السلاح. في أواخر هذه المرحلة التي استمرت ما يقارب التسعة أشهر بدأت تظهر الانشقاقات عن الجيش الرسمي لتشكل ما صار يعرف بالجيش الحر. أما المرحلة الجارية فإن الصراع المسلح بين قوى النظام العسكرية والأمنية والجيش الحر والمقاتلين المحليين والجهاديين هو المسيطر على مشهد الثورة، لتتراجع كثيرا المظاهرات السلمية وما يصاحبها من شعارات وطنية جامعة. خلال هذه المرحلة جرى تحول مهم في دور الجيش الحر والمسلحين المحليين فكثرت كتائبه لتغطي كامل جغرافية سوريا ولينتقل من وضعية الدفاع عن النفس وعن المتظاهرين السلميين إلى الهجوم، شعاره الوحيد تقريبا هو إسقاط النظام بالقوة العسكرية.

إن تصاعد العنف المتبادل بين قوى النظام وقوى الثورة المسلحة على الأرض بات يهدد بصورة لم يسبق لها مثيل خلال المراحل السابقة للثورة وجود الدولة والوطن بل الثورة أيضا.

من الأكيد أن النظام هو المسؤول الأول والرئيسي عن كل ما يعانيه شعبنا من ويلات وكوارث، بسبب لجوئه للعنف المنفلت من أي قيود أخلاقية وسياسية، ضد شعبه الذي طالبه بإصلاحات حقيقية وجذرية تعيد له حريته وكرامته في إطار نظام ديمقراطي تعددي، وإغلاقه بالتالي جميع الأبواب في وجه الحلول السياسية كلها. إذا كان عنف النظام هو المسؤول الرئيسي عن كل ما يحصل في سورية، فهذا لا يعفي قوى الثورة المسلحة من بعض المسؤولية. بداية لا بد من القول إن الذين يحملون السلاح في سوريا اليوم ويستخدمونه تحت رايات الجيش الحر لمحاربة النظام، ليسوا جميعهم من الجيش الحر ولا يستخدمون سلاحهم من أجل ذات الأهداف التي يقاتل من أجلها الجيش الحر.

المقاتلون اليوم في سوريا أربع فئات. الفئة الأولى وتضم الضباط والجنود الذين انشقوا عن جيش النظام، وعلى الرغم من أنهم لا يخضعون لقواعد التنظيم العسكري المعروفة نظرا لظروف عملهم، وليسوا موحدين في بناء هرمي عسكري واحد، فإنهم يتميزون بالحرص عند استخدام السلاح، وبوضوح الخيارات السياسية، وأن أهدافهم واضحة وهي ذاتها أهداف الثورة. تتوسع هذه الفئة من خلال الانشقاقات التي تحصل في أجهزة النظام العسكرية والأمنية. الفئة الثانية وتضم المقاتلين المحليين الذين حملوا السلاح ضد النظام، دفاعا عن أنفسهم وأهلهم وبيوتهم. وتعد هذه الفئة هي الأكبر بين مكونات الجيش الحر، لكنها الأقل تدريبا وانضباطا. عناصر هذه الفئة كانوا - حتى حين - يشكلون القوام الرئيسي للمظاهرات السلمية الداعية للثورة وحاملين راياتها وشعاراتها المعروفة، لكنهم تحت وطأة عنف النظام وهمجيته بدأوا يمزجون بين روح الانتقام من النظام الذي تسبب بوفاة بعض الأبناء والأهل والأقارب وتدمير البيوت والممتلكات، وبين التمسك بأهداف الثورة. الفئة الثالثة وهي فئة قطاع الطرق واللصوص الذين يستغلون الظروف لمزيد من النشاطات الإجرامية من خطف مأجور، أو قتل مأجور لحساب من يدفع، وسرقات ونهب وغيرها. تتكون هذه الفئة في غالبيتها من المجرمين القضائيين الذين أفرج النظام عنهم، ومن بعض ضعاف النفوس الذين يطمحون إلى الثراء السريع، أو حتى الانتقام، ولا يتورعون عن ارتكاب أفظع الجرائم في سبيل تحقيق غاياتهم، وهم لا علاقة لهم بالثورة ولا بأهدافها السياسية، بل يشكلون عبئا ثقيلا عليها. الفئة الرابعة وتضم الجهاديين المحليين أو المقبلين من الدول العربية والإسلامية. تتميز هذه الفئة بتناقض خياراتها السياسية ووضوحها في الوقت ذاته. فالمقاتلون المنظمون ضمن وحدات قتالية تابعة للإخوان المسلمين تعلن تمسكها بأهداف الثورة وهي تنسق في كثير من الحالات مع الوحدات القتالية للفئة الأولى، لكنها تظهر أيضا روحا انتقامية واضحة ضد النظام للكارثة التي تسبب بها لها في بداية الثمانينات من القرن الماضي. أما المقاتلون الوافدون من الخارج فهم إما من تنظيمات «القاعدة» ويرفعون الرايات السوداء فوق تشكيلاتهم، أو ينتمون إلى «جبهة النصرة» أو غيرها من التنظيمات الإرهابية المعروفة. إن نشاط هذه المجموعات ضار بالثورة، ويقدم خدمات سياسية للنظام، خصوصا عندما تقوم بتفجيرات تقتل فيها المدنيين بصورة خاصة.

إن جميع هذه الفئات التي تحمل السلاح تنشط تحت عنوان الجيش الحر بصورة رئيسية، مستغلة اسمه كذراع عسكري للثورة لتنفيذ ما تسعى إليه. وإن أخطر هذه الفئات هي الفئة التي تضم قطاع الطرق، وكذلك فئة المقاتلين المنتمين إلى جماعات إرهابية معروفة وموصوفة. فهم يشكلون عبئا عليها ويخدمون النظام بصورة مباشرة أو موضوعية.

إن انتقال الثورة إلى مرحلة الصراع المسلح ضد النظام جاء في استجابة واضحة لاستراتيجية النظام التي وضعتها أمام خيار صعب ومعقد جدا. ففي لعبة السلاح المزدوجة تم إيجاد كل الظروف الملائمة لحصول تشوهات كثيرة في مسار الثورة سواء نتيجة دخول كثيرين لا علاقة لهم بها ولا بأهدافها، أو تدخل قوى دولية كثيرة دفاعا عن مصالحها الخاصة. ولذلك ومن أجل أن يكون السلاح في خدمة الثورة ينبغي على قيادة الجيش الحر عزل جميع المقاتلين الذين لا علاقة لهم بالثورة وأهدافها، وينبغي دون إبطاء توحيد فصائل الجيش الحر والمسلحين المحليين في هيكل تنظيمي واحد وتحت قيادة عسكرية واحدة، وتحديد العقيدة القتالية له وضبط استخدام السلاح وتحديد مهماته في إطار استراتيجية واضحة تحمي الثورة وأهدافها، وبما يراعي حقوق الإنسان والقانون. وبالتساوق مع ذلك وحتى بغض النظر عنه ينبغي العمل سريعا على عودة المظاهرات إلى الشوارع حتى ولو أخذت الطابع الرمزي وذلك للتأكيد المستمر على أن الثورة هي من حيث الأساس والجوهر ثورة سلمية، ويمكن للجيش الحر في هذه الحالة وحيثما كان ضروريا تأمين حمايتها.