الفن والإسلام السياسي!

TT

لا تزال أصداء العمل التلفزيوني الكبير، المسلسل الدرامي الذي تناول سيرة الخليفة الراشد والصحابي الجليل سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وأذيع على شاشات التلفزيون في شهر رمضان الماضي، تلقى البحث والمد والجزر، وتوظفها الأطياف الاجتماعية المختلفة كمادة لصالحها، وتعتبر أن العمل ونجاحه لا بد أن يجير لصالحها ولصالح توجهها.

فهناك فريق انتصر للفن والإبداع وقدرة هذه الوسيلة على توصيل الرسالة بشكل حضاري وعصري وتقديم الإسلام الوسطي في قالب جذاب، وفريق آخر يسخر هذا العالم لخدمة أهدافه السياسية والاستشهاد بالعديد من الشخصيات والمواقف والأحداث بشكل ممنهج وموجه.

وذكرني ذلك الأمر بما كان يحدث من قبل بعض الأنظمة القمعية الثورية العسكرية في العالم العربي خلال حقبة الستينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت ميولا هائلة باتجاه الحراك اليساري والتوجه الاشتراكي، فكان «طبيعيا» أن يتم إصدار مطبوعات وكتب وندوات ومقالات تمجد وتبرز الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه) وتطلق عليه الصحابي «الاشتراكي» أو «الصحابي الأحمر»، وتلفت النظر إلى كيفية أن طباعه كانت مليئة بالزهد والتعفف والتقشف، وتتجرأ وتقول إن هذا الصحابي العظيم كان «يقدم للعالم أول نموذج للرجل الاشتراكي».

هكذا كانت تتبجح الأنظمة العسكرية الثورية التي كانت تروج وتسوق وتبيع سلعة الاشتراكية لشعوبها باعتبار أن ذلك الأمر وقتها كان طبق اليوم ونكهة الشهر، لكن كل ذلك لكي يلقى القبول كان لا بد من أن يحاط بغلاف ديني ومتوج برمز كبير من صحابة سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وعلى النهج نفسه وبنسبة أقل كان هناك ترويج كبير ومركز على شخصية الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، وروج له من قبل أصحاب الفكر الرأسمالي والتجاري، وتم الاستشهاد بشخصية الرجل على أنه اهتم بالجوانب الاقتصادية والتجارية وطور أدوات عمله بنجاح وجدية وكان مثالا يحتذى به وقصة نجاح كبيرة في مجال التجارة في وقته.

وطبعا في عوالم شخصيات الصحابة رضوان الله عليهم كانت هناك مجالات كبيرة لتبني الأفكار والمواقف والشخصيات وتوظيفها في أوجه الفقه والزهد والقيادة والتجارة والفروسية والكرم. وهذا هو سر الثراء الذي كان عليه «صحابة» الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وكان بالتالي قوله وحديثه الشريف محقا حينما قال «صحابتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».

والخوف اليوم أن يكون هناك توظيف جديد للسيرة الجميلة للصحابة الكرام لصالح الإسلام السياسي ومآربه، وهو الذي سيواجه في ذلك الأمر «فنيا» الأصوات المتطرفة التي تحرم الفن وتمنع الموسيقى وصوت المرأة والصورة وغير ذلك من أدوات الإنتاج الحديثة ووسائله. ستكون الفنون على موعد تحد مع فكرة «الحرية» وحدودها في ظل حكم باسم الإسلام، يرى أن الإعلام والفن أداة مهمة ولكن يجب تسخيرها للخطاب السياسي الذي يحمله وليس لأي غاية أخرى.

وهذا الحوار، وهو مهم جدا وفعال للغاية، يجري الآن وعلى أعلى مستوى في مصر وفي تونس، ويواجه برفض وخوف وتشكيك وهلع وريبة، لكن ملف توظيف الفن في زمن الإسلام السياسي قد تم فتحه، وهناك أطياف تتصارع على الفوز به واحتكاره.

وملف مسلسل «عمر بن الخطاب» فتح مسألة واحدة فقط، وهناك العديد من القصص والروايات والشخصيات لن تقل جدلية وخطورة في التطرق إليها، وهي كفيلة برفع سقف الحريات والأنظمة والقوانين إلى مستويات غير مسبوقة، وقد تكون في ذلك فائدة مطلوبة تعم الجميع.

[email protected]