مصر الداخل والخارج في أسبوع

TT

قبل ذهاب الرئيس المصري إلى طهران بشهور طويلة، كانت هناك إشارات وتلميحات لا تبعث على الطمأنينة، فقد كانت تشير كلها بشكل غامض إلى علاقات مع طهران في طريقها إلى التشكل على أسس ليست مفهومة. ومنها رحلات إلى إيران لا تعرف على وجه التحديد من نظّمها يشترك فيها عدد من شباب الإعلاميين، ثم كلمات عن العلاقة التاريخية بين البلدين وضرورة التعامل بينهما في مجالات عديدة وأهمها المجال الاقتصادي ثم أحاديث عن مستقبل العلاقة بين مصر وإيران التي يبدو أنها تنتظر - فقط - ذهاب الرئيس إلى هناك لإعلانها واضحة على العالم كله. وفي خلفية ذلك كله كلمات عن الدول الغنية الثرية التي تحقد علينا أو تحسدنا على ما حققناه في ثورتنا. وقبل الزيارة بأيام بدأت ألاحظ غلالة اعتذارية تلف الكلام عنها، ومنها أن الرئيس سيمر على إيران بينما هو عائد من الصين، وأن زيارته ستستغرق أربع ساعات فقط. وفي طهران كانت المفاجأة في خطاب الرئيس محمد مرسي، الذي أعلن فيه بقوة ووضوح انحيازه للشعب السوري في مواجهة النظام الحاكم الذي يقتل شعبه وأن مصر تنحاز لنفسها ولأهلها العرب. كانت هذه الكلمات هي آخر ما يتوقع سماعه الرئيس أحمدي نجاد وحكومته وحرسه الثوري، ويبدو أن مترجم الخطاب الفوري المسكين من اللغة العربية إلى الفارسية، شعر بالفزع من أن يتهم بأنه هو صاحب الكلمات وليس مترجمها، لذلك قام بعمليات حذف وإضافة من عنده، جعلت موقفه أكثر سوءا.

ثم عاد إلى القاهرة ليلقي خطابا آخر في جامعة الدول العربية أعلن فيه بقوة ووضوح أن مصر تقف مع الشعب السوري، وأن مصر ستقدم ما تقدر عليه وهو أنها سترسل مدرسين مصريين إلى تركيا للتدريس للأطفال السوريين، كما أنها ستعامل الطلبة السوريين في الجامعات المصرية كما تعامل الطلبة المصريين.

أن تعرف الحكومة الإيرانية بكل وضوح أن مصر تقف مع المنطقة العربية وتشاركها متاعبها وأفراحها، أمر في غاية الأهمية ويقطع الطريق على العدميين الذين يعملون على حرمان مصر من مصادر قوتها.

وأعود لمصر.. وبعد أن أديت التحية لرئيسي كمواطن وكاتب على موقفه الواضح الشجاع، لا بد أن أصارحه أيضا أنني كمواطن التهم من قبل آلاف الأطباق المطهوة بكل لون وشكل من هذه المؤتمرات والأحلاف والكلمات العظيمة لأكثر من نصف قرن حتى أصبت بتخمة عقلية عجزت حتى الآن عن علاجها، أقول له: الشجاعة التي أبديتها في الخطابين خيبت ظن كل من أساء بك الظن، ووضعتك على بداية طريق سليم، غير أنها لا تمثل نصرا سياسيا أو اجتماعيا. والخطر فيها ومنها، أنها تعطيك وتعطينا إحساسا كاذبا بالشبع السياسي.

هذا هو عصر الإنسان الفرد، ولا يوجد ما هو أكثر قداسة على الأرض من حياته اليومية، كل قضايا العالم السياسية لا أهمية لها عندما نعجز عن تقديم كوب من المياه النظيفة لطفل مصري في قرية من آلاف القرى المصرية. لا أهمية لأي حكم تعجز مستشفياته عن علاج أطفاله، لا أهمية للحياة ذاتها عندما ينعدم إحساس الناس بالأمن.

من الشائع في مصر هذه الأيام أن الثورة لم تحقق شيئا جديدا، وأن تغييرا ما لم يحدث، وأن البلد يدار بنفس الكيفية التي كان يديرها بها النظام السابق، وأن سجن عدد من الناس بتهم مختلفة، كبر عددهم أم صغر، لا يغير من الأمر شيئا. الواقع أن مصر تعاني من مشكلة واحدة منذ أكثر من ثلاثين عاما، وهي العجز عن التخلص من النظام الاشتراكي بكل آلياته وتعليماته وأوامره ونواهيه. وكل المحاولات التي قام بها النظام السابق لتحقيق قدر من اقتصاد السوق لم تبتعد عن الاشتراكية؛ أي أن رجال الأعمال الناجحين فيها كانوا حكوميين بشكل أو آخر. نتج عن ذلك خطر جديد بعد الثورة وهو التعامل مع الواقع بعملة أو بمقاييس تم إلغاؤها ولم يعد لها وجود في حياة البشر الفعلية. سأعطيك مثالا ربما يكون أوضح من غيره، وهو العمل، تتصاعد الصيحات في كل مكان وبين الحروف وأمام الكاميرات عن أننا لا نعمل، وأنه لا بد أن نعمل، ويجب أن نعمل. الواقع أن ما يحدد العمل، ليس هو العمل في حد ذاته بل المقاييس التي تم بها، ولذلك عندما نقترض ملايين أو مليارات الدولارات لكي نضخها في سوق العمل بمفاهيمنا القديمة، فلا بد أن ننتج سلعا رديئة لا أحد في حاجة إليها، هنا يتحول سوق العمل إلى مصدر أكيد للخسارة والمزيد من الفقر، ومع قطار الفقر يزيد عدد البلطجية وقطاع الطرق. هذا هو ما سماه الرئيس غورباتشوف في كتابه «البريسترويكا» الإنتاج بالسالب.

هناك مقاييس عالمية لكل شيء على وجه الأرض، وأبسطها ندركه عندما يطلب الميكانيكي المصري من صبيه أن يناوله (مفتاح خمستاشر) إنه هو هو نفس المفتاح الذي يستخدمه زميله في طوكيو ونيويورك. وبذلك نستطيع أن نقول غير واهمين إن مستقبل العمل في مصر الذي هو مستقبل المصريين يتوقف على اعتناقنا في كل المجالات للمفاهيم العالمية العصرية. والوقت هو العنصر الحاسم الذي يحدد سعر أي سلعة وبالتالي خسارتك أو مكسبك فيها، هذا هو المعيار الأول. ولما كان من المستحيل الالتزام بمقاييس معينة في مجال محدد والتنكر لبقية المفاهيم في بقية مجالات الحياة، لذلك يجب أن نفتح عقولنا وقلوبنا لكل مفاهيم العالم المعاصر في العالم الحر. إن مصر ليست فوق الجميع أو تحت الجميع، على البشر جميعا أن يعرفوا أنهم على خط سبق واحد مع سكان الأرض جميعا. سأعطيك مثالا ثانيا، الجرائد والمجلات المصرية المملوكة للحكومة، والمعركة الدائرة الآن حول «أخونتها» لكي تمسك بعقول المصريين لحساب حكومة الإخوان، الواقع أنها عاجزة كل العجز عن الإمساك بعقل أي مخلوق، وإلا.. أين كانت عندما وقع النظام السابق؟ كيف أفلتت منها كل عقول الشبان في ميدان التحرير؟ ما هو عملها إذن..؟.. ولا حاجة.. هي فقط تستخدم من أجل الهدف العظيم وهو زيادة ديون مصر. احسب خسارتها في عام واحد، واحسب مرتبات ومكافآت كل التنظيمات والتشكيلات المرتبطة بها، واحسب المبلغ المطلوب لتغطية هذه الخسارة، أليس هو بالضبط المبلغ الذي نتوسل الآن لصندوق النقد الدولي ليقرضنا إياه؟

في الاشتراكية، الدولة في حاجة إلى الجرائد والمجلات، والكاميرات والميكروفونات لتشتم وتبتز أعداءها في الداخل والخارج، ولكن ماذا تفعل بها في عصر يمتلك فيه كل إنسان محطة تلفزيون في بيته؟

لا أحد هذه الأيام قادر على الإمساك بعقل أحد، والفكرة الصحيحة في أي مجال ستجد من يدافع عنها كما ستجد أيضا من يهاجمها. أما الشتائم والاتهامات الباطلة أو الصحيحة، فالإعلام الخاص كفيل بذلك.