إيحاءات السياسي العجوز!

TT

يمكن التوقف عند أشياء كثيرة، في الحلقات الست التي نشرها أحمد أبو الغيط، وزير خارجية مصر الأسبق، على صفحات «الشرق الأوسط» الأسبوع قبل الماضي، وفيها كان يتحدث عن سياسة مصر الخارجية من 1948 إلى 2011.

يمكن التوقف عند كلامه عن تزايد دور اللواء عمر سليمان، رئيس جهاز المخابرات المصرية الأسبق، في ملف السياسة الخارجية، على حساب الوزراء المعنيين، ابتداء من السنوات الثلاث الأخيرة في فترة عمرو موسى، في الوزارة، وحتى تنحي الرئيس السابق مبارك عن الحكم في 11 فبراير (شباط) 2011 بما يعني أن ذلك قد حدث مع 3 وزراء: عمرو موسى، أحمد ماهر، ثم أبو الغيط نفسه!.. وقد كان من الملاحظ، على كل حال، أن الوزير أبو الغيط، واللواء عمر سليمان، كانا يقومان برحلات عمل خارجية مشتركة كثيرة، في الأعوام الأخيرة من عهد مبارك، وخصوصا إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولم يكن بطبيعة الحال، يقال شيء مفيد، عن مضمون هذه الرحلات، ولا عما كان يدور فيها، مع الجانب الأميركي!

ويمكن، مرة أخرى، التوقف فيما قاله الوزير أبو الغيط، في حلقاته الست، عن أن اللواء سليمان، قد نصحه، عند بدء توليه وزارة الخارجية، بأن يراعي البساطة وعدم الدخول في تعقيدات وتفاصيل إذا أراد أن يقدم شيئا مكتوبا في تقرير لحسني مبارك.. وهي نصيحة يبدو أنه التزم بها، وظل يعمل وفقا لها، ولم يشأ أن يزعج الرئيس السابق، بأشياء، لا بد أنها كانت بطبيعتها، معقدة، وغير بسيطة!

ويمكن، للمرة الثالثة، التوقف في حلقاته المهمة، أمام تناوله لشخصية حافظ إسماعيل، مستشار الأمن القومي، في أول عصر السادات، وكيف أنه كان المستشار الأول والأخير، من هذا النوع، وبهذا المسمى، إذ بعده ألغى السادات المنصب، ولم تعرف مصر منذ ذلك الوقت، منصبا بهذا التوصيف، على الرغم من أهميته، وأهمية وجوده في النظام السياسي المصري، وأيضا حتمية وجوده وحضوره، إلى جوار الرئيس.. أي رئيس.. في أي وقت.

ولكن.. هذا كله شيء.. وما جاء في الحلقة الثانية شيء آخر تماما، ويستحق منا أن نتوقف أمامه، طويلا، وأن نحاول استيعابه قدر الإمكان.. إنني أقصد شيئا محددا، وهو دور هنري كيسنجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، في إغراء الرئيس السادات، بأن يحرك الأمور بين مصر وإسرائيل على الأرض، بالحرب، وليس بأي وسيلة أخرى.. فليس سرا أن السادات ظل منذ توليه السلطة عام 1970 إلى قيام حرب أكتوبر 73 يحاول أن يستعيد أرضه بأي وسيلة، إلا أن تكون هذه الوسيلة هي الحرب.

يروي الوزير أبو الغيط، في الحلقة الثانية، أن العجوز كيسنجر كان كلما راح طرف مصري يفاتحه، فيما يجب أن تفعله واشنطن، مع إسرائيل، من أجل إعادة أرض مصرية وعربية محتلة، فإنه كان يقول بوضوح، إنه لا يملك وقتا يضيعه مع بلد مهزوم، وإن القاهرة إذا كانت تريد أن تحقق إنجازا، فيما يخص أرضها المحتلة، فإن عليها أن تغير الحقائق الموجودة على الأرض، بينها وبين تل أبيب، ووقتها فقط، وليس قبلها، سوف يكون في إمكانه أن يشغل نفسه بما بين البلدين، أو بحقوق مصر، إذ شئنا الدقة!

كان كيسنجر يريد أن يقول، بصراحة، ولكن بشكل غير مباشر، إن على مصر أن تخوض حربا، تستطيع بها أن تحرك الأمور على الأرض، وهو ما حدث فعلا، وبعدها نشط هو نفسه، في رحلاته المكوكية الشهيرة، بين الولايات المتحدة، ومصر، وإسرائيل، في مرحلة ما بعد الحرب مباشرة.

ما يلفت النظر هنا، ليس أن كيسنجر قد قام بدور بعد الحرب، لا يزال حوله خلاف كبير، وليس أنه هو نفسه، قد صرح في أثناء الحرب، بأن بلاده لن تسمح بأن يتلقى السلاح الأميركي هزيمة من أي نوع، أمام السلاح السوفياتي، الذي كانت مصر تحارب به معركتها.. ليس هذا إجمالا، هو ما يلفت النظر، ولا حتى ما قيل عن أن رسالة أميركية قد وصلت السادات، في ذلك الوقت، وكان مفادها أن مساندة واشنطن المطلقة لإسرائيل بالسلاح، ليس المقصود منها مصر تحديدا، وإنما المقصود بالأساس، إلحاق الهزيمة بالسلاح السوفياتي بأي طريقة!

هذا كله، مرة أخرى، مهم، ولكن الأهم منه، أن نفهم لماذا ظل كيسنجر، طوال الفترة السابقة على الحرب، يردد أن المهزوم يجب أن يدفع ثمن هزيمته، وأن المهزومين يجب أن لا يطلبوا منه أن يعمل من أجلهم، وأن تحريك الأوضاع على الأرض يجب أن يسبق أي خطوة منه، وأنه.. وأنه.. إلى آخر هذه المعاني، التي سوف يلاحظ القارئ لحلقات الوزير أبو الغيط، أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق، ومستشار أمنها القومي الأشهر، قد رددها كثيرا، وطويلا، في تلك الفترة، إيحاء، لا تصريحا، فقد كان يومئ بها ويشير من طرف خفي، دون أن يقول كلاما محددا يمكن أن يؤخذ عليه، أو يؤاخذ به!

ليس هذا فقط، وإنما يقول الوزير أبو الغيط، إنه التقى مع كيسنجر، في نيويورك، عام 1999 وراح يعيد تذكيره بما كان منه، قبل 73 فإذا بالرجل ينتفض، بالمعنى الحرفي للكلمة، وينكر تماما أنه قد أوحى من قريب أو من بعيد للمسؤولين في مصر، بأن يذهبوا إلى الحرب مع إسرائيل!! فما معنى، إذن، أن يظل ذلك الرجل يوحي بالشيء نفسه، لحافظ إسماعيل مرة، ولغيره، من بين مسؤولي الشأن الخارجي في القاهرة، مرات، فإذا قامت حرب 73 ثم مضت كل هذه السنوات بعدها، بما تخللها من زيارة السادات للقدس، وكامب ديفيد، ومعاهدة السلام.. وغيرها.. وغيرها.. إذا به، عند المواجهة الصريحة، حول ما كان منه، ذات يوم، ينكره إنكارا كاملا، بل ويتعامل معه، وكأنه تهمة شنيعة لا يجوز أن تلتصق به؟

هل لأن حصيلة الحرب، قد جاءت على غير ما كان يحب ويهوى، أم لأنه، في عام 99 كان يخشى أن يبدو أمام اليهود بشكل عام، وإسرائيل بشكل خاص، على أنه هو الذي حرض المصريين على الحرب؟!

الفكرة هنا، ليست في أنه حرض، أو أنه أغرى السادات، أو أنه أوحى من بعيد بشيء ما.. ولكن الفكرة التي أريد أن نتوقف أمامها، هي أنه - أولا - أوحى بالشيء، ولم يذكره صراحة ثم أنه - ثانيا - تملص منه تماما، عند الضرورة، وتعامل مع ما كان قد صدر عنه، وكأنه لم يكن له وجود في يوم من الأيام.

ولا بد أن الذين قرأوا كتاب أحمد بهاء الدين «محاوراتي مع السادات» يذكرون جيدا، أنه قال فيه إنه إذا كان أحد قد أوحى ذات يوم للسادات، بفكرة الذهاب إلى القدس - لا الحرب هذه المرة - فقد كان هذا الأحد، ويا للعجب، هو كيسنجر أيضا!!

فلماذا أوحى، في حالة الحرب، ثم لم يشأ عند الجد، أن يُقر بما كان قد أوحى به.. ثم لماذا، في حالة السلم، قد أوحى كذلك، وبالطريقة نفسها؟.. لا نعرف بالطبع، ما إذا كان سوف ينكر إيحاءه هنا أيضا، لو أن أحدا واجهه به، أم أنه سوف يقر به ويعترف!!

لسبب ما، أذكر هنا، أن سفيرة أميركية كانت عام 1990 قد أوحت هي الأخرى لصدام حسين، بأن بلادها لن يعنيها الأمر، إذا ما قرر الرئيس العراقي، غزو الكويت، فلما صدقها وغزا الدولة الجارة، كان ما كان مما نعرفه، وقد كانت إيحاءات تلك السفيرة وقتها، كما قيل بعدها، هي التي أغرت صدام حسين بغزو الكويت!!.. ومن يعرف؟!.. إذ يجوز أن صدام حسين لم يكن ليغزو الكويت، لولا أن السفيرة إياها، قد لمحت له من بعيد هي الأخرى، بأن علاقته بالدولة الجارة، مسألة تخصه، أو تخصهما وحدهما في كل الأحوال، وأن بلادها لن تتدخل!

الإيحاءات الثلاثة، بالحرب عام 73 وبالذهاب إلى القدس عام 77 وبغزو الكويت عام 1990 تجعل صاحب العقل يتساءل، عما إذا كانت إيحاءات من هذا النوع، تمثل ركنا من سياسة خارجية أميركية ثابتة حول العالم، عموما، وفي منطقتنا خصوصا، أم أنها صدفة جرت بها المقادير ثلاث مرات، فغيرت وجه المنطقة التي نعيش فيها، ولا تزال؟!

ما جرى في التواريخ الثلاثة، لم تتكشف أوراقه كلها بعد.. غير أن فكرة الإيحاء بالشيء دون التصريح به، فيها معا، وعلى هذا المستوى، تستأهل منا قدرا من التأمل، لعلنا نفهم ماذا يدور حولنا!