حقا إنه زمن العجائب

TT

«هناك خيط رفيع يفصل بين الضحك والألم، والملهاة والمأساة، والنكتة والجرح النفسي».

(إيرما بومبيك)

لبنان كيان صغير على خريطة الشرق الأوسط. هذا كلام صحيح.

لكن الصحيح أيضا أن تأثير لبنان على محيطه أكبر بكثير من حجمه، وبسبب تنوع تركيبته السكانية، يحتفظ بأهمية خاصة في حسابات القوى القريبة والبعيدة.

حقيقة أخرى تتصل بلبنان، هي أن هذا الكيان الأقرب إلى الديمقراطية في العالم العربي، أنتج ظواهر سياسية غريبة عجيبة؛ منها العبثي، ومنها الفاشي، ومنها المثالي، منذ أبصر النور بحدوده الحالية عام 1920.

من الظواهر الغريبة العجيبة مثلا ظاهرة «حزب الله». وهو حزب ديني مسلم شيعي يمثل مدرسة فقهية معينة لا تحظى بالضرورة بإجماع بين مرجعيات التقليد الشيعية. وعندما كثرت التهم الموجهة إلى الحزب، الذي أسسته حقا المؤسسة الدينية - الأمنية في إيران، قال أمينه العام السيد حسن نصر الله على رؤوس الأشهاد إنه يعتز بأنه «جندي في جيش الولي الفقيه».

هذا كلام أمين عام الحزب.. وليس منسوبا إليه.

ثم إن هذا الحزب جعل من مواجهة إسرائيل أساس شرعية وجوده وذريعة احتفاظه بسلاحه دون سائر التنظيمات السياسية اللبنانية الأخرى. ومن ثم وظّف سلاحه في المسار التصاعدي لهيمنته السياسية على لبنان تحت رعاية النظام السوري.. دون أن يكترث بشيء اسمه «سيادة لبنانية».

ومن الظواهر الغريبة العجيبة الأخرى عسكري مسيحي ماروني اسمه ميشال عون، كان في يوم من الأيام قائدا للجيش اللبناني. هذا الجنرال المتقاعد كُلِّف عند انفراط عقد الدولة في أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي بترؤس «حكومة عسكريين» استقال الوزراء المسلمون منها فور إعلانها، ومع هذا، اعتبرها عون حكومة شرعية لا يسيء لونها الطائفي الواحد إلى مبادئ العيش المشترك.

ومن ثم حارب بالقصف المدفعي كل من شكك بشرعية «حكومته»، وزايد في «مسيحيته» حتى على البطريرك الماروني نصر الله صفير عندما وافق الأخير على اتفاقات الوفاق الوطني بالطائف لإنهاء الحرب الأهلية. وبعدها خاض حربا تدميرية داخل المجتمع المسيحي، ثم حربا انتحارية ضد الجيش السوري انتهت بتجديد دمشق هيمنتها على لبنان، وفراره إلى فرنسا. ومن فرنسا، فُتحت له عبر مقرّبين منه علاقات مع «اللوبي الإسرائيلي» الأميركي، أثمرت ذهابه معززا مكرما إلى واشنطن عام 2003. وهناك من قلب مبنى الكونغرس حرض علانية على حزب الله وعلى سوريا. ويومذاك اعتبره مناصرو حزب الله «حالة إسرائيلية»..

لكن الظواهر الغريبة العجيبة لا تنتهي هنا..

في فبراير (شباط) 2005، اغتيل رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري مع آخرين في تفجير هز بيروت ولبنان، وامتدت تردداته خارج الحدود. وكان طبيعيا أن توجه أصابع الاتهام إلى غريمه السياسي المباشر؛ أي الجهاز الأمني السوري اللبناني الذي أسس في لبنان بالتعاون بين إيران وسوريا.. وطبعا بمعرفة إسرائيل.

حزب الله حرص على توجيه الشكر لسوريا (؟) خلال أقل من شهر من الاغتيال، متحديا مشاعر ثلاثة أرباع اللبنانيين - بمن فيهم حتى ذلك اليوم - أنصار «الحالة الإسرائيلية» العونية. وجاء الرد بعد أسبوع بحشد شعبي جماهيري مليوني طالب بخروج الجيش السوري من لبنان، وتحققت هذه الغاية في غضون أسابيع.

غير أن المفاجأة، كما تبين لاحقا، تمثلت في أن عون عاد خلال فترة قصيرة من المنفى الفرنسي وفق تفاهم كامل مع نظام دمشق.. بهدف شق صفوف معارضيه ومعارضي حزب الله. وبالفعل، لم يطل الوقت قبل أن يدخل حزب الله وميشال عون في تحالف مستمر حتى الآن تحت رعاية نظام بشار الأسد.

عون شطب من قاموسه موضوع السيادة، وحزب الله تناسى مسألة إسرائيل..

عون نسي وصفه نظام دمشق بـ«الإطفائي المجنون» الذي يشعل الحرائق ثم يمنّن الآخرين بإطفائها.. بل شد الرحال «حاجّا» إلى مسقط رأس القديس مارون في شمال سوريا بضيافة بشار الأسد، وفي المقابل، سكت حزب الله عن تحريض عون ضده في واشنطن..

عون، الذي كان ذات يوم قائد جيش سابقا معاديا للميليشيات غير الشرعية، صمت عندما أمطر مقاتلو حزب الله بالرصاص طائرة هليكوبتر عسكرية وقتلوا قائدها النقيب سامر حنّا، والحزب الذي يسكنه هاجس العداء لإسرائيل لم ينطق بحرف لدى إدانة العقيد فايز كرم أحد أقرب المقربين من عون بـ«الاتصال بإسرائيل»!

بالأمس فقط.. كانت هناك أمثلة أخرى على ثنائي العجائب والغرائب..

عون ألقى خطبة عصماء في عشاء حزبي لـ«تياره» حذر فيها مناصريه من سقوط نظام بشار الأسد الذي قتل حتى اللحظة أكثر من 30 ألف سوري، وقال: «سقوط النظام السوري سيكون بمثابة سقوط للديمقراطية (!) وسيكون المسيحيون أول الضحايا». ثم عبر عن «خشيته على حرية الاعتقاد والسياسة وحق الاختلاف في حال سقط النظام في سوريا وحل التطرف بديلا عنه». ولم يكتف بهذا؛ بل زاد «..تغيير النظام في سوريا قد يقضي علينا وعلى لبنان، لأن الأنظمة التي ستأتي، تفكيرها يرجع إلى القرن الـ14»!

تفكير يرجع إلى القرن الـ14؟ الأرجح أنه يقصد التفكير الديني الإسلامي. ولكن أليس حزب الله - على الأقل في نظر قيادة الحزب - حزبا إسلاميا؟ وإلى أي قرن يا ترى تعود فكرة الولي الفقيه؟

في المقابل، لا يوازي احترام ميشال عون للإسلام والمسلمين إلا تقديس حزب الله للسيادة اللبنانية.

حسن فضل الله، أحد مفكري الحزب ومشرعيه في البرلمان اللبناني، اتهم بالأمس فريق «14 آذار» (المعارض للحكومة) بأنه «دأب على التفريط بالسيادة، وهو لا يؤتمن على السيادة». وبلهجة استعلاء غريبة يدعم حجتها السلاح، قطع بأن «لا عودة لا إلى 60 سنة ولا 6 سنوات إلى الوراء».

وقبله أتحف الشيخ نبيل قاووق (نائب رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله) اللبنانيين بكلمات: «فريق (14 آذار) لا يؤتمن على البلاد والعباد». كما اتهم زميله وزير الزراعة اللبناني الدكتور حسين الحاج حسن، الحزبي والأكاديمي اللامع خريج جامعات فرنسا، فريق «14 آذار» بأنه «لا يزال يتعاطى بلغة الكيدية مع قانون الانتخاب وسلسلة الرّتَب والرواتب ومع كل ما تفعله الحكومة اللبنانية، لأن هذا الفريق لا يتحمل فكرة خروجه من السلطة!».

الدكتور الأكاديمي، ومن قبله الشيخ والمفكر المشرع، يتكلمون وكأن الناس باتوا دون عقول ولا ذاكرة ولا منطق يربط الحقائق ويستخلص الخلاصات.

يريدون من الناس أن ينسوا الاعتصامات التي احتلت ساحات بيروت وعطلت حياة البلاد لأكثر من سنة كاملة، مستقوية بسلاح أقوى من سلاح الدولة.. بهدف إسقاط حكومة منتخبة شعبيا.. يريدون من الناس أن ينسوا أولئك الذين أدانهم القضاء اللبناني بالاتصال بإسرائيل لسنوات وسنوات..

يريدون من الناس أن ينسوا أين يكمن القرار السياسي الفعلي لحزبهم الإلهي.. وضمن حدود أي دولة..

يريدون من الناس أن يصدقوا أن الحزب الذي أمّن له حضوره محور طهران - دمشق، تحت أنظار إسرائيل وسمعها، يعني حقا ما يقوله حول السيادة الوطنية.

عجائبيو لبنان أشبه ما يكونون بحلفائهم في نظام دمشق؛ الشريك الفاعل في «تحالف الأقليات» المدعوم إسرائيليا.. الذي يقتل الألوف.. ثم يتهم الآخرين بـ«التآمر على إراقة الدم السوري»!