سنّة التغيير

TT

لا يزال كبار التنفيذيين في شركة الاتصالات المشهورة «نوكيا» في حال هائل من الذهول والصدمة جراء رد فعل الأسواق المالية السلبي جدا لإطلاق الشركة لأحدث منتجاتها في مجال الهواتف الذكية وهو جهاز «لوميا»، والذي يعتمد على أحدث تطبيقات منتجات «ويندوز» كنظام تشغيل المنتج من قبل شركة «مايكروسوفت» العملاقة. سرعان ما أطلقت الشركة هذا الجهاز وسرعان ما انهار سهم الشركة في الأسواق المالية بشكل مذهل، وهذا رسالة واضحة أن العالم يعتقد أن «نوكيا» أتت متأخرة جدا على سوق الهواتف الذكية، وأن السوق باتت اليوم محصورة بين «أبل» ونظام «الأندرويد» المنافس، وإلى حد أقل شركة «ريم» وجهاز «البلاك بيري» المعروف. كم من شركة لم تستطع «قراءة» الواقع بشكل جيد وفوتت على نفسها فرصة الإصلاح واللحاق بركاب التصحيح. «نوكيا» ستتحول في عصر السرعة إلى علامة جانبية تسرد على مضض حين التطرق لرواية تاريخ شركات الاتصالات وتطورها، فسيذكر العالم أن هذه الشركة كانت يوما متخصصة في الغابات وتحولت إلى قطاع التقنية والاتصالات وسيطرت على سوق الهاتف الجوال تماما، ولكن فشلت في قراءة التطور، وأن ما يحصل في السوق اليوم هو اندماج التقنية، فأصبح هناك التلفاز والحاسوب والهاتف في جهاز واحد وأصرت «نوكيا» بكبر وعناد غريبين بأنها شركة اتصالات «فقط»، تماما كما كان الحال مع شركة «كوداك»، أسطورة صناعة الكاميرا والأفلام في العالم؛ لم تقرأ الوضع المتغير في السوق جراء التطور التقني الهائل الذي حصل، وأصرت على البقاء كما هي حتى تحولت شركة «نوكيا» (نعم «نوكيا» نفسها!) إلى أكبر شركة مصنعة للكاميرات في العالم بسبب وجود كاميرا أو اثنتين على كل جهاز هاتف جوال تنتجه، وهي جميعها كما هو الحال مع التطور الرقمي في المنتجات العصرية كلها تعمل بلا أفلام أصلا، وطبعا أعلنت شركة «كوداك» بعد ذلك إفلاسها وتحولت إلى أسطورة تاريخية. الشركات التي لا ترى ولا تسمع ولا تعي الأصوات والإشارات والرسائل القادمة من العملاء والأسواق ستفوت على نفسها فرصة الإصلاح والتصحيح، وهي الفروقات بين الديناصورات التي تنقرض وبين غيرها التي تبقى. إعادة اكتشاف الذات وتطويرها والحث على تحديها وتحدي ما حولك عوامل محفزة لمنع التكلس والترهل والاستسلام للحال والإصابة بالانبهار الذاتي وبداية الهزيمة الأزلية، وهي عوامل تصيب الأشخاص والشركات والأمم أيضا، وهي تظهر لنا الفرق بين نوعيات مختلفة من الناس والبشر وكيفية تعاملهم مع التحديات والمصاعب، فهناك من يلعن الظلام وهناك من يضيء الشموع، وهو تماما التحدي الذي واجهه ستيف جوبز «المذهل» عندما قرر أن «أبل» شركته التي أسسها وعاد إليها مجددا، فقال: إن شركتي ليست مصنعة لأجهزة الحاسب الآلي، ولكنها ثلاث شركات في واحدة.. فهي شركة اتصالات (الآي فون) وشركة ترفيه (الآي تونز) و(الآي تي في) وشركة تقنية (الآي ماك)، وبذلك استطاع إضاءة شموع باهرة وإحداث نقلة نوعية في تطويرها وإعادة هيكلتها وسط تحديات شخصية ومهنية لا يمكن وصفها إلا بالاستثنائية والجادة جدا.

الأمثلة كثيرة ولكن يبقى المثال الأعظم الذي أحب الاستشهاد به دوما، وهو ذلك الفذ القائد الأفريقي الاستثنائي نيلسون مانديلا الذي قضى 27 عاما في زنزانة فردية ولو انطلق منها بمدفع رشاش وقتل كل المواطنين البيض في بلاده لما لامه أحد جراء العنصرية التي تعرض لها والظلم الكبير، ولكن فتح صفحة جديدة لبلاده وأعاد هيكلة العلاقة الاجتماعية بين أبنائها وتحولت البلاد إلى دولة ناجحة جدا بالسماح والتسامح وسعة الصدر وقراءة التغيير الذي حصل. دروس وعبر ويبقى البحث عمن يعتبر. التغيير سنّة كونية ثابتة وضعها الخالق عز وجل ليؤكد أن كل شيء زائل ومتغير إلا هو.

[email protected]