تحجب المذيعات وسفور الظلم

TT

لن أتوقف كثيرا عند قرار وزير الإعلام المصري الجديد بالسماح للمذيعات المحجبات بقراءة الأخبار في التلفزيون المصري، فهو منطقي وطبيعي جدا، ويتناغم مع روح الديمقراطية التي هبت على مصر مع نسائم الربيع العربي، ولكني سأتوقف عند قرار المنع الذي تشبث به نظام مبارك، وتشبث معه بهذا الحظر عدد من المحطات العربية الخاصة والعامة.

المشكل أنه لا النظام ولا منظروه أدركوا أن جميع أنواع الحظر والتشديد على الحالة الدينية لا تترك إلا أثرا يسيرا، بل لا نبالغ إذا قلنا إن التضييق يعطي أثرا عكسيا، إذ يصاحبه شعور بالتحدي والحرص على تطبيق المحظور رسميا، فلم تفلح عشرات السنين من القمع ومحاربة الحالة الدينية في الاتحاد السوفياتي إلا في إشعال الحماسة لها، ولهذا فحالة التدين في دول أوروبا الشرقية مقارنة بها في الدول الغربية ذات السقف العالي للحرية كانت أقوى بعد أن انعتقت من ربقة الشيوعية، والتي ما تركت طريقا ولا فجا في التضييق على الدين إلا ولجته، وخاصة في مجال التربية والإعلام، ومع ذلك كانت النتائج عكسية.

ثمة إشكال آخر في التجربة المصرية، وحتى التونسية، في التضييق على حالة التدين، وهو فشلهما في إقناع الجماهير بأن الحجاب بجميع تفصيلاته وهيئاته، وكذلك بعض السنن الإسلامية المجمع على شرعيتها، بدع نشرها الإسلام السياسي، بل بالغ نظام بن علي وقبله بورقيبة، ولا ننسى كبيرهم الذي علمهم الإقصاء، العسكر التركي، حين بثوا دعاية بليدة وغبية، مفادها أن الحجاب «لباس طائفي»، وهذه أيضا أعطت نتائج عكسية، حيث سرت مشاعر التحدي لإحياء ما حاول النظام محاربته والتضييق عليه، وسرى معها شعور أخطر وهو اقتناع شرائح من الشباب بأن الحرب والتضييق إنما هما على الدين وليس على جماعات الإسلام السياسي، وكان هذا الجو الملوث بيئة خصبة وجد فيه مروجو فكر التكفير بغيتهم، والمؤسف أن السياسي حاول جر رجل الدين الرسمي إلى أتون الصراع مع جماعات الإسلام السياسي مستخدمين أدوات خاطئة، مثلما فعل شيخ الأزهر السابق في جولته في أحد المعاهد، حين سأل طالبة منتقبة «إيه اللي انت لابساه ده؟»، مثل هذه التصرفات أنجع طريقة لتسويق فكرة المحظور، وإرسال رسالة خاطئة للشباب المتحمس أن نظامهم حقا في حالة حرب مع الدين.

كان التحول والتغيير مذهلا ومفاجئا ومصادما لعقود من التضييق الممنهج، ففي تركيا التي صارع عسكرها الحجاب بشراسة، طال العمر بعسكرها الإقصائيين حتى رأوا ببصرهم وهو حسير زوجتي رئيس الدولة ورئيس الوزراء وهما تحضران المناسبات الرسمية العسكرية بكامل حجابهما، وقل ذات الشيء عن تونس ومصر، طبعا مع اختلاف التجارب في هذه الدول.

النظامان المصري والتونسي كانا ملكيين أكثر من الملك حين حاولا إقناع حلفائهما الغربيين بأنهما السد المنيع دون وصول الإسلاميين إلى الحكم، ولكنهما ارتكبا خطأ قاتلا حين استخدما «أسلحة آيديولوجية» محظورة في صراعهما السياسي ضد الإسلاميين، مثل التضييق على بعض المظاهر الإسلامية مثل الحجاب، لدرجة حرمان المحجبة من أن تكون مذيعة مع أن الغالبية الساحقة من السيدات في مصر مثلا محجبات، أسلحة جلبت عليهما سخط الشارع، الذي كان بحق الخطر الداهم الذي زلزل النظامين وليس خطر تخلي حلفائهما الغربيين عنهما، هذه الحقيقة هي من أهم ما أفرزته ثورات الربيع العربي.

بطبيعة الحال، الأنظمة التي سقطت ولم يعد ينفع فيها الوعظ بعد خراب بصرتها، لكن الدرس المهم للإعلام بقطاعيه الرسمي والخاص في بقية الدول العربية أن يعيد النظر في سياسته الإعلامية المصادمة في بعض موادها، ليس لجماعات الإسلام السياسي، ولكن لحالة التدين الفطرية، فالقمع الإعلامي المنفلت من القيم لا يقل خطرا عن القمع السياسي في خلق بيئة التطرف والتشدد، بل ويرفع من شعبية جماعات الإسلام السياسي.

[email protected]