لمن يرُخى عنان مصر؟

TT

ينقسم المتابعون الجادون للشأن المصري بين فريقين، الأول يرى أن (مرحلة الإخوان) في مصر هي مرحلة مؤقتة، والفريق الثاني يرى أنها (بداية حكم يطول). في كل الأحوال ما يحدث في مصر – إن ابتعدنا عن رؤية الشجرة للتطلع إلى الغابة – هي مرحلة تاريخية على وجه ما. شخصيا قلبي مع التحليل الأول، ولكن عقلي مع الثاني.

لأول مرة – حسب ما أعرف – ينشر في مصر نقد للحاكم يقول صاحبه مستدركا – هذا إذا أكمل محمد مرسي فترة حكمه – ولكن هذه العبارة تقلصت حتى اختفت في الآونة الأخيرة.

المراهنة على حكم يطول يأتي في مقدمتها حب المصريين للاستقرار، فثوراتهم – رغم كونها عاصفة – إلا أنها نادرة، كما أن يد (الدولة المركزية) ثقيلة. فالإخوان إن كسبوا الدولة، كسبوا السباق الأول. ويمكن للإخوان أن يتكيفوا مع الدولة ويكيفوها أيضا، فللإخوان محبون ولا ينقصهم الداعمون.

إلا أن العقبات أمام الإخوان ليست سهلة، وليس بالمستطاع تجاهلها، هنا تتأكد معادلة - أنا شخصيا معتقد بها - هي أن التجاهل يسير عكسيا مع الخسارة، أي كلما تجاهل الإخوان العقبات الكبرى، تآكل رصيدهم في الشارع المصري وكذلك على المستوى الإقليمي. الرئيس المصري يبدأ خطواته، وهي خطوات تنجح من جهة، ويفارقها التوفيق من جهة أخرى، إلا أن نسبة النجاح – حتى الآن - عائدة إلى ثلاثة عوامل: ثقل يد الدولة المصرية، تزيين الإعلام لكل الخطوات، وقصر فترة الوصول إلى السلطة. وهذه العوامل يمكن أيضا أن تتآكل، خاصة إن تلازم الفشل في أكثر من ملف في نفس الوقت.

ما هي الملفات الكبرى الحرجة التي تواجه الإخوان في السلطة؟ حسبما تبدو لي هي أربعة:

أول الملفات الحرجة، العلاقة الثلاثية، بين التنظيم وبين الحزب وبين الدولة. فلم يحدث في السابق أن واجه حكم هذه الثلاثية، فقد كان هناك في الغالب ثنائية (حزب ودولة) أما التنظيم، فهو شأن جديد مضاف. تنظيم الإخوان قديم، صمم في بدايته على شاكلة التنظيمات المركزية التي شهدتها أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، ومنذ ميلاده واشتداد الضغط عليه، تحول إلى تأكيد السلطة المركزية في علاقاته الداخلية، هي في الأساس غلبة رأي (المرشد، ومكتب الإرشاد، ومجلس الشورى) وقد خرج من التنظيم الإخواني - إما نتيجة ضغط السلطات المختلفة وإغراؤها، أو نتيجة مقاومة المركزية الضيقة - كثيرون، أهميتهم أنهم ذوو رأي.

هذه العلاقة الثلاثية الشائكة المرتكزة على الطاعة، سوف يصطدم أقطابها ببعضهم. الخلاف على السلطة سيحتم هذا الصدام، بعد مرور شهر العسل، جزء من الصدام شهدناه مبكرا بين التنظيم وأبو الفتوح، لكننا سوف نرى صداما آخر أعمق وأشد، إن لم يفتح هذا الملف في الجماعة ويدرس، ويتفق على إما تنظيم أو حزب، فوجود الاثنين معا يخلق مراكز قوى، وفوقه زُرع خلل في السلطة السياسية المصرية. لم يواجه الإسلاميون هذا المأزق في تركيا مثلا، بسبب اختلاف في الهيكلية. ضرورة النظر في هذا الملف ليس فقط لتخليص حكم الإخوان من تعددية المراكز، ولكن أيضا من أجل بناء مؤسسات للحكم، عجزت عن بنائها أنظمة الحكم السابقة، والفشل في بناء المؤسسات يعني في نهاية الأمر فشل التغيير المطلوب.

ثاني الملفات الحرجة، الاستعداد التام والأكيد والعملي للسماح بتداول السلطة، لقد أهلك من قبلهم عدم الاستعداد حتى في التفكير لتداول السلطة، لا عبد الناصر ولا السادات ولا مبارك. الاستعداد المبدئي والأكيد لتداول السلطة هو الذي أنجح التجربة في تركيا، تداول السلطة وتوزيعها بين أطراف المجتمع هو الطريق الأفضل للبقاء أو العودة، لا لسبب إلا لأن قاعدة تلازم (الفساد مع الاستبداد) قاعدة لا استثناء لها، تحت أي شعار قام الحكم. فالذهاب إلى الاستحواذ تحت ذرائع مختلفة، قد تقبل بها قطاعات من المجتمع عن طوع أو إذعان، ولكنه في نفس الوقت يخلق بيئة للفساد، تسمم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على المدى المتوسط والبعيد. أقلقتني عبارة وجدتها مقدمة لشرح (الإخوان والسلطة) على النت تقول (طلب السلطة مشروع لذوي الكفاءة، وواجب لمنع غيرهم من تقلد ذلك)!!

ثالث الملفات الاقتصاد، لا يحتاج الاقتصاد المصري إلى طول تفكير لنعته بأنه اقتصاد استهلاك لا إنتاج. الأرقام موجودة، ولكن للمتعجل أن ينظر إلى الإعلانات في الإعلام المصري، خاصة المشاهدة، فجُلّها إعلانات (أكل وشرب)، وتحويل الاقتصاد إلى منتج طريق طويل وصعب، يحتاج بجانب المهارة الفنية إلى تصميم سياسي، كما أن نتائجه بطيئة نسبيا، والإخوان خير من يعلم أن (النعمة زوالة)! فالاقتصاد هو الذي سوف يشكل (الصداع المزمن لحكم الإخوان) يمكن التخفيف من ذاك الصداع بمحاربة الفساد، على أن تكون حربا للأصدقاء كما للأعداء، كما أن لتلك الحرب على الفساد تكاليف سياسية، قصرت عن دفعها كل الأنظمة المصرية السابقة. حرب الفساد تحتاج إلى تغيير في منظومة القيم، وهي منظومة وصفها أحد الثقاة من عقول مصر (أن في مصر كل شخص واضع يده في جيب الثاني)! كناية عن السوق الاقتصادية الموازية، الفكر الذي ترسخ طويلا وأصبحت له قيم خاصة به.

التحول إلى الإنتاج يحتاج – بجانب عدم الإسراف في الوعود - النظر إلى منظومة التعليم التي أصبح فيها الكم يغلب على الكيف بمراحل، كما أصبح فيه الشكل يتجاوز الكفاءة. الغياب المزمن لنقطة التوازن بين المنتج التعليمي وسوق العمل الذي اشتكى منه الخبراء المصريون بمرارة لا يزال عالقا، وهو الذي سبب نسب البطالة الفادحة، كما سبب كل السوءات الاجتماعية المعروفة. لقد اعتمد من سبق على تلقيم الشعب شبعا سياسيا عن طريق مانشيتات الصحف، كل يوم يزف إليه أخبار النجاح الاقتصادي، حتى خلقت ثقافة اقتصاد مزدهر على الورق.

أما رابع الملفات، فهو السياسة الخارجية، وهي تمتد من العلاقة بالجوار، وهي شائكة، كما العلاقة مع فلسطين (حماس بالذات) وإسرائيل، والعلاقة مع العرب (خاصة دول الخليج) وانتهاء بالعلاقة بالغرب والعالم. ما زالت نقطة التوازن في هذا الملف غير واضحة، وربما تحتاج إلى نقاش وتفسير، يهمني منها الآن، العلاقة بإيران. وهي علاقة ليست واضحة. هناك بالتأكيد خيط أيديولوجي بين الإخوان وبين التيار الديني السياسي الإيراني. واقتراح الرئيس مرسي بأن يكون هناك (رباعية) تشمل السعودية وتركيا ومصر بجانب إيران، من أجل النظر في ما حل في سوريا، في نفس الوقت الذي أدان فيه النظام السوري في قمة طهران لدول عدم الانحياز، ثم تكرار الاقتراح من جديد في الأسبوع الماضي في الجامعة العربية، يثير القلق، ليس من حيث الاعتراض على علاقة بين القاهرة وطهران، ولكن من حيث الواقع العملياتي. فكيف يمكن تفسير الوقوف ضد الحكم السوري، الذي يقوم بازدراء وحشي لحياة السوريين، ثم الطلب من أكثر مناصريه الدخول في توليفة للبحث عن حل؟!

تلك باختصار العقبات الأربع الكبرى، التي تحتاج إلى إعمال فكر، وتوظيف العقول المصرية في البحث عن حلول، على أي جانب هم في السياسة، لتفكيك معضلات تلك الملفات.

آخر الكلام:

ليس عيبا أن تتعثر في الظلام، ولكن العيب أن تتعثر وضوء الشمس ساطع!