سوريا المغلوبة على أمرها

TT

كنا نتمنى وقد اشتدت المحنة السورية وبات حديث القتل والقصف واكتشاف المجازر المتنقلة وما يتلازم مع هذا المشهد من لقطات خاطفة لأطفال ينزفون وأمهات يندبن فلذات الأكباد هو السائد، أن تكون القمة السادسة عشرة لحركة عدم الانحياز في طهران مناسبة لاستدارة ذات الهدف الإنساني من جانب الدولة المضيفة، بحيث تغتنم مشاركة مائة وعشرين دولة في المؤتمر فترفع الحظر المفروض على رموز المعارضة الإيرانية وتحفِّز بذلك الرئيس بشَّار الأسد على أن يعيد النظر في رؤيته للأزمة وتصنيفاته الظالمة بعض الشيء لبعض أطياف المعارضة السورية وفي علاجه الأمني الذي أضاف المزيد من الضرر بعدما اعتقد أنه سيكون مجرد علاج تأديبي للخارجين على طوعه لا يلبث المنتفضون أن يلوذوا بالصمت والصبر معا على نحو ما حدث سابقا في زمن والده إزاء الانتفاضة الحموية في الثمانينات. كما كنا نتمنى لو أن أهل الحكم الإيراني أثبتوا وبما لا يدع مجالا للشك بعد الآن أن مشروعهم النووي سلمي كما سائر المشاريع النووية في دول كثيرة. والإثبات الذي نقصده هو دعوة المؤتمر بكامل رؤساء الوفود أو بمن ينتدبون ومن بينهم الأمين العام للأمم المتحدة وسائر أمناء المنظمات الإقليمية المشاركة إلى القيام بجولة على المنشآت النووية. لكن ذلك لم يحدث فأضيف إلى الانطباع السائد بأن المشروع النووي الإيراني إنما هو سلمي لفظا وتبريرا لكنه السلاح الذي تُسرع إيران الخطى في إنجازه كما استعجالها لإنتاج كل أنواع الأسلحة ذات الطابع الاستراتيجي وصولا إلى إمكانية إطلاق قمر صناعي في حال كان محلَّلا شرعا.

لم يفعل أهل الحكم الإيراني ما يأمله الرأي العام العربي والإسلامي والدول الصديقة، وظهروا سواء من خلال المداولات أو التصريحات التي رافقت انعقاد المؤتمر، أنهم يفضلون الانحياز على عدمه. والانحياز إلى التعقيد بدل حلحلة الأزمات.

زيادة في التوضيح نقول إنه لو كان أهل الحكم الإيراني يريدون للسوريين استقرارا وبحيث تكون سوريا دولة صديقة وليست على الحال التي هي عليه، لكانوا أخذوا بنصيحة الإمام علي (رضي الله عنه) التي لخصها بالقول: «صديقك من نهاك وعدوك من أغراك». لكن عندما لا ينهى أهل الحكم الإيراني الرئيس بشَّار ويصدر عن كبيرهم المرشد آية الله خامئني الذي كان ترؤسه للقمة مناسبة لمئات المشاركين من كل دين ولون وقومية كي يتعرفوا عن قرب على هذا الوحيد في العالم الذي يحكم باسم الدين ولا راد لأمره، يصبح من الطبيعي أن يقول الرئيس المصري محمد مرسي وقد لاحظ تجاهُل كل من المرشد خامئني والرئيس أحمدي نجاد للأزمة السورية في كلمتي الافتتاح ما قاله حول الموضوع الملتهب، وبعبارة لا لف فيها ولا دوران وهي: «الثورة في سوريا هي ضد النظام الظالم وأن الوقوف مع نضال أبناء سوريا ضد نظام قمعي فقد شرعيته واجب أخلاقي مثلما هو ضرورة سياسية واستراتيجية». وكأنما مرسي، الحديث العهد في الرئاسة والذي جاء إلى القمة مؤكدا صلابة سلطته أمام المؤسسة العسكرية المصرية العريقة ذات الدور الوطني والبطولي إزاء مواجهة إسرائيل، أراد بما قاله إفهام دول عدم الانحياز بأن إيران التي ستترأس القمة لمدة ثلاث سنوات لا تقوم بالسعي الذي يهدئ الوضع في سوريا وأنه بما قاله أراد إخراج أهل الحكم الإيراني من لامبالاتهم هذه من دون إضمار نية الإحراج لهم، أو لعله أراد إلقاء علامة استفهام في شأن تأجيجهم للصراع من خلال المساندة الميدانية والمالية والعسكرية للنظام السوري التي تجعل المواجهة حالة نزف يومي ومن خلال التصريحات التي يدلي بها مسؤولون وتحمل في طياتها تشجيعا للرئيس بشَّار على أن يتصرف بما تحبذه الثورة الإيرانية وليس بما من واجبه القيام به لإطفاء اللهيب المتزايد إحراقا للبلد ناسا وعبادا.

وفي استطاعة الرئيس مرسي الرد على الذين اعترضوا على كلامه حول المحنة السورية وتوصيفه للنظام بأنه «ظالم» ورأوا فيه أنه إحراج لها أمام مؤتمر طالما تاقت الثورة الإيرانية إلى انعقاده في عاصمتها كونه يخفف من وطأة العزلة الدولية المفروضة عليها بسبب تطلعاتها النووية وتدخلاتها في دول الجوار، بالقول إنه من قبل أن يأتي إلى طهران كان زار الصين وأنه عشية انتهاء تلك الزيارة كانت وكالة الأنباء المرموقة «رويترز» تبث عبْر شبكتها الإخبارية مقابلة معه هي الأولى التي يجريها مع وكالة أخبار دولية منذ أن فاز برئاسة مصر في يونيو (حزيران) 2012، قال فيها: «آن الأوان لكي يقف هذا النزيف في سوريا لكي ينال الشعب السوري حقه كاملا ولكي يذهب من المشهد هذا النظام الذي يقتل شعبه..».. ولم يُبد أهل الحكم الصيني اعتراضا على قوله هذا كما الاعتراض الضمني من جانب الثورة الإيرانية التي صدمَنا ذلك التلاعب بكلام مرسي بحيث عند ترجمتها الفورية تم استبدال كلمة سوريا بكلمة «البحرين» ولم يخفف من مهزلة هذا التصرف اعتذار إيران لاحقا.

لقد انتهى أمر القمة في طهران إلى أن ما كان الرئيس بشَّار يتوقع حصوله عليه لم يحصل، بل إنه بدل أن يوظف الحكم الإيراني - بما لديه من قدرات - المؤتمر لإدراج موقف يخفف وطأة العزلة عن الحكم السوري فإن القمة انتهت عمليا إلى أنها قمة التبرؤ من أي مساندة لموقف النظام مقابل وقفة بالغة الأهمية عبَّر عنها الرئيس المصري الذي جاء رد وزير الإعلام السوري عمران الزعبي عليه لاحقا (الأحد 2 سبتمبر/ أيلول 2012) انفعاليا وغير ذي تأثير. بل إن الذي سمعناه من الوزير هو أشبه من حيث النتائج بما تتسبب به إحدى الطلعات الجوية لطائرة حربية تأمرها غرفة العمليات بعِلْم الرئيس بشَّار أو بتفويض سابق وشامل بقصف أحد الأهداف في واحدة من المدن والبلدات السورية الخارجة على الطوع، ذلك أن القصف يحقق الأذى بالفعل لمن هم في بيوتهم أو متاجرهم أو حقولهم إلا أنه يضيف المزيد من الإساءة إلى سمعة النظام لأنه يطارد بالسلاح الجوي إلى جانب الأسلحة الأرضية منتفضين عليه، مع أن الأمر لا يستوجب مثل هذه الجسارة التي دخلت شهرها العشرين ولا بوادر حسم لها سوى في كواليس كبار اللاعبين في الساحات العربية – الإقليمية - الدولية.

وكما كنا نتمنى أن تفعله إيران ولم يحصل وبذلك بقي النظام البشَّاري في ورطته وبقيت سوريا الوطن والشعب مغلوبة على أمرها، فإننا كنا نتمنى أن يخرج الوزير الزعبي على أهل الإعلام الداخلي والخارجي بكلام لا يندرج في الأسلوب نفسه الذي سبق أن اعتمده المتحدث الرسمي المغيَّب الدبلوماسي جهاد المقدسي فكان المردود مثل كلام الوزير الزعبي من حيث إلحاق الأذى بالهيبة بنسبة إلحاق صاروخ من طائرة حربية على أرض سورية الأذى بأفراد سوريين. ونقول ذلك على أساس أن الوضع ليس بالتبسيط الذي قرأناه في كلام الأخ عمران كما أنه ليس مناسبا اعتماد سياسة التهزيء والكيدية في هذه الظروف ضد الأشقاء العرب ومنهم الشقيق لبنان المستضعَف ماضيا وحاضرا إنما ليس دائما على ما يأمل المرء. إذ يكفينا تعكيرا لصفو العلاقات ذلك التشبيه الذي صدر ذات يوم بفعل «زلة لسان» من الرئيس بشَّار حول «أشباه الرجال». هذا إلى أن ردا يأتي من الرئيس بشّار على موقف الرئيس مرسي في قمة طهران ربما يكون مقبولا إنما ليس من وزير في حق رئيس. وإلى ذلك، فإن الوضع السوري بتداعياته المأساوية لا يتطلب سوى الأخذ بالتسوية العاقلة على نحو ما حصل في اليمن، وها هي الدول المانحة ترفد عهد «يمن التسوية الخليجية» بالمليار دولار الأول من أصل الستة مليارات، وفي اليوم نفسه (الثلاثاء 4 سبتمبر 2012) ها هو الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي تنحى لكنه لم يغادر البلاد يترأس (كما الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري فعل بعد إنحائِه) اجتماعا للحزب «المؤتمر الشعبي العام» الذي ما زال رئيسه - والرئيس حزبيا - لرئيس الدولة عبد ربه هادي الذي بمقتضى التسوية العاقلة ترأَّس البلاد، وبصرف النظر عما إذا كان الرئيس السابق يفعل ذلك لإثبات الوجود أم لتأكيد أن الحكمة يمانية وتنفع في ساعة الشدة يقاسيها الحاكم كما أنها خير وصفة كان من مصلحة الرئيس بشَّار الأخذ بها ما دام جاءه العرض مرة وثانية وثالثة على صينية من الضمانات، لكن الحليف الإيراني أحبط المحاولة.

أما كلام الوزير الزعبي فيكفي التأمل في مفردات عباراته للاستنتاج بأنه كلام يقال في غير زمانه وغير ظروفه. ومن هذه العبارات إلى مسألة «اللحية» التي أشرنا إليها قوله: «الدم السوري برقبة الرئيس المصري محمد مرسي» و«أين مصر من إغلاق البوابات بوجه الفلسطينيين ومن الارتهان الأميركي وأين هي من كامب ديفيد، وأين مرسي من الغاز المصري المصدَّر إلى إسرائيل ومن القضايا القومية» و«هنالك قنوات فضائية شريكة في سفْك الدماء» و«إن المعارضة السورية تمتلك أسلحة إسرائيلية الصنع وهناك العديد من الاغتيالات نُفِّذت في سوريا مستهدفة شخصيات وخبراء وعلماء تحمل بصمات الموساد الإسرائيلي» و«إن نجاح مهمة المبعوث الأخضر الإبراهيمي يتوقف على قيام دول محددة كالسعودية وقطر وتركيا بالالتزام علنا بنجاح خطة النقاط الست والتوقف فورا عن إرسال السلاح وإغلاق معسكرات التدريب والإيواء للمقاتلين وعندها سنختبر نوايا الجميع..»..

نخلص إلى القول: إن استحضار الرئيس بشَّار لسنوات الماضي الجميل يوم كان موضع رعاية الأشقاء العرب واهتمام المجتمع الدولي كان يكفي يوم بدأت الانتفاضة من درعا للمبادرة إلى اتخاذ إجراءات لتدارُك الموقف حفاظا على رونق تلك السنوات وبشائر عوائدها الوفيرة. لكنه لم يتصرف كرجل دولة ولم يستنجد كمسلم بالآية الكريمة «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادِلْهم بالتي هي أحسن». وبذلك تسير سوريا على طريق الدولة المغلوبة على أمرها.. أو ما هو أخطر من ذلك. عسى ولعل يُصلح الأخضر الإبراهيمي هذا العطار الوسيط الأممي اليعربي المسلم عند قدومه إلى دمشق بعد أيام، ما أفسده العناد السوري المشترك (النظام والمعارضة)، وعلى هدْي الآية الكريمة «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما». وإننا لنتفاءل بالخير لعلنا نجده ومعنا الشعب السوري الذي لا يستحق قساوة هذه المعاناة ومذلة هذا البلاء.