في الحرية والمقدس

TT

حجم الأزمة الحادة بين أتباع الأديان والمذاهب والعقائد المختلفة يزداد حدة واشتعالا، وتأخذ هذه الأزمة أشكالا مختلفة ومتوترة حول العالم، وذلك بحسب الحالة الخاصة بها. فهناك أزمات أخذت شكل الجدل الفكري، وأخرى أخذت شكل الإهانة والاستفزاز المقصود، وحالات أخرى سقطت في أوحال المواجهات المسلحة والعنيفة وأودت فعلا بحياة الأبرياء. ولم يعد سوى إطلاق فكرة الحوار بين أتباع الأديان وبين أصحاب الثقافات.

الحوار بحد ذاته فكرة مهمة وراقية ونبيلة وذات مقصد جميل، ولكن لتتمة هذا المغزى السامي والراقي لا بد من معرفة أهداف الحوار المنشود وسط ازدياد حاد في التشنج والتطرف والتعصب، فالحوار الغرض منه عرض كل فريق لوجهة نظره وإيجاد أرضية مشتركة من السمو الروحي والتقدير الإنساني للآخر.

وهذه مسألة بالتالي تلغي فكرة أن الحوار غرضه، كما يعتقد البعض خطأ، «إقناع» الطرف الآخر بصحة وجهة النظرة العقائدية وصدق موقفه، وهي مسألة تبدو شبه مستحيلة بطبيعة الحال، ولكن يبدو واضحا جدا أن ما يجب الوصول إليه هو «احترام الأديان»، وهو مقام راق ورفيع يتجرد فيه المتحاورون من كل المواقف «العدائية» المسبقة ضد الآخر، ويتفقون فيه على احترام الآخر تماما، وهي نقطة للآن تبدو مفقودة ومغيبة.

فلا يمكن أن تكون حرية الإبداع وحرية الرأي بمثابة رخصة مفتوحة للإهانة والازدراء؛ لأن للحرية، وحتى في قلب العالم الغربي الذي هو نظريا واحة للحرية والإبداع، خطوطا حمراء تقف ضد إهانة الرموز الدينية، وهناك العديد والعشرات من الأمثلة التي تؤكد ذلك، فالكثير لا يزال يتذكر الموقف الحازم الذي اتخذته المستشارة الألمانية ميركل وأمرت بوقف عرض فيلم سينمائي كان به إساءات شديدة جدا بحق المسيح عليه السلام، وكذلك الأمر في حقبة الثمانينات الميلادية من القرن الماضي حينما تم إيقاف رسم كاريكاتيري في صحيفة «أتلانتا كونستيتيوشن» يصور السيد المسيح كإرهابي وعلى رأسه إكليل من أصابع الديناميت، في إشارة تصوره أنه داعم للإرهاب إبان حملة وموجة التفجيرات الإرهابية التي كانت تقوم بها المجموعات الأصولية المسيحية المتطرفة ضد عيادات الإجهاض وأطبائها وممرضيها، التي أودت بحياة بعض الأبرياء.

وطبعا هناك الملف الخاص بالتعاطي مع اليهود ومعتقداتهم، وهي منطقة محظورة جدا ومقننة بالقانون، يحظر فيها إهانتهم أو التشكيك في تاريخهم، أو ما حصل في المحرقة النازية بحقهم في أوروبا. ولكن كما هو واضح يبدو جليا أن هناك تفاوتا واضحا في التعاطي مع هذه المسألة، مسألة ازدراء الأديان والمساواة في ذلك الأمر المهم، وهو الذي يؤدي بشكل طبيعي ومنطقي إلى زيادة ظهور الحركات الأصولية المتطرفة، كرد فعل على الإهانة التي تصيبهم، وبالتالي تنال من رموزهم الكبرى.

الحرية هي حق مهم، ولكنَّ هناك خيطا رفيعا جدا بين الحق والحرية في التعبير، والحق والحرية في الإهانة، وهي مسألة تطرق إليها أهم مفكري الغرب نفسه مثل الفرنسي «فولتير» حينما قال: «حريتك الشخصية مكفولة حتى تصل إلى حدي أنا». وهذه هي المعضلة التي تواجه المجتمعات والأنظمة والقوانين.. كيف يمكن حماية مبدأ الحرية والحق مع الاحتفاظ الكامل بمكانة الأديان ورموزها دون المساس بها أبدا وتجريم ذلك للجميع كما يحدث مع «البعض».

فلا مكان للانتقائية مع مسألة تمس قلوب وعقول الناس ومعتقداتهم، فهي مسألة بالغة الأهمية والخطورة، وستكون وقودا للمزيد من المهالك إذا لم يتم تداركها فورا.

[email protected]