من أشجان التعليم في المغرب

TT

أشجان التعليم في المغرب كثيرة ومتنوعة، فهي ما تفتأ تطفو على السطح بين الآونة والأخرى. التعليم في المغرب هم يشغل المواطن البسيط مثلما يفيض الخطاب السياسي للمجتمع السياسي بإشكالاته، واليوم هنالك عودة قوية إلى حديث التعليم، ونحسب أنه سيشغل من الدخول السياسي القريب ومن السنة التشريعية، وبالتالي من الفضاء السياسي والمجتمع المدني، حيزا غير قليل، وذلك لأسباب موضوعية، سنحاول تبين بعضها بعد قليل. بيد أن علينا، في بداية هذا الحديث، أن نتبين بعض هذه الأشجان التي نشير إليها.

ظل التعليم في المغرب، طيلة العقدين اللذين أعقبا استعادة الاستقلال السياسي، سبيلا لتحقيق الآمال العريضة التي كانت تراود المواطن المغربي والتي كانت بعضا مما حرك الشعور الوطني وأججه من أجل العمل على التوق إلى الحرية. كان حلم الآباء والأمهات أن يروا في الأبناء ما عجز كل منهم عن بلوغه، فعن طريق المدرسة والجامعة والتكوين يكون الإعداد للحياة الكريمة ويكون الإفلات من شرك حتمية إعادة إنتاج الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيئ. كان التعليم يمثل بالنسبة لشرائح واسعة من المجتمع المغربي «مصعدا اجتماعيا» (كما يقول المثل الفرنسي)، يمكن من إحداث النقلة الاجتماعية المأمول بلوغها. من جانب أول، كانت هنالك حاجة قوية إلى إعداد الأطر (الكوادر) المتوسطة والكبرى، بالنظر إلى الفراغ الهائل الذي كان موجودا في الإدارة وفي التدريس. ومن جانب ثان، كانت هنالك مدارس ومراكز للتكوين تعمل على الاستجابة للحاجات الكثيرة - لنقل إن الدولة كانت مشغلا عملاقا في العقدين الأولين اللذين أعقبا استعادة الاستقلال. ومن جانب ثالث، تم إحداث أربع عشرة جامعة انتشرت في مناطق مختلفة من البلاد، واستطاعت تلك الجامعات - مع مشاكل نوعية شتى، ومع حال من القلق السياسي والاضطراب، ومشاكل نوعية من هذا القبيل - أن تفلح، جزئيا على الأقل، في تحقيق دور «المصعد الاجتماعي». بيد أن الأمور سارت في اتجاهات أخرى بعد ذلك منذ بدايات العقد الثامن من القرن الماضي. لم تعد الدولة في المغرب مشغلا عملاقا يقدر على استيعاب الأعداد الكبيرة من خريجي الجامعات والمعاهد، والقطاع الخاص في المغرب كان، ولا يزال، إلى حد كبير، مشغلا صغيرا، حاجته إلى السواعد تفوق، أضعاف أضعاف حاجته إلى الكفاءات المعدة علميا في ميادين مختلفة. لم تعد المدرسة ثم الجامعة وسيلة للارتقاء الاجتماعي، بل لم يعد التعليم والتكوين ضمانا للحصول على الشغل.. وشيئا فشيئا، أخذت ظاهرة تخريج أفواج من العاطلين عن الشغل بأعداد مهولة تتنامى.

خارجا عن حديث الخيبة والمرارة، ودون التعرض لقضية كيف التكوين (جودة التكوين، قدرته على إعداد الطالب المغربي للحياة العملية وأخصها التوافق مع متطلبات سوق الشغل، مجمل القضايا التي تتصل بالبرامج والمناهج..) - تثير أشجان التعليم قضايا أخرى، جوهرية وعميقة، قضايا لم يفلح المغرب في التغلب عليها مع تنوع وتعدد المحاولات التي بذلها، ومع الجهود المالية التي صرفت من أجل ذلك. قضايا أخصها، في تقديرنا، ثلاث، وطبيعة الحديث الذي نريد الخوض فيه تستوجب الوقوف عندها وقفات قصيرة، وقفات هي من قبيل إجمال تشخيص الداء دون الخوض في الأسباب والدواعي.

القضية الأولى - وإذا شئنا فلنقل الملمح الأول الدال على ضعف وتردد التجربة التعليمية في المغرب طيلة العقود الماضية - هي العجز الواضح عن تحقيق مطلب تعميم التعليم وإجباريته. لا يزال المغرب، حتى اليوم، بعيدا عن تحقيق مطلب تعميم التعليم، والحال أنه شعار ظلت كل الحكومات المتعاقبة على السلطة التنفيذية تلوح به منذ السنوات الأولى التي أعقبت استرجاع الحرية السياسية. لا تزال النسبة المئوية متدنية في الأرياف، وهي تبعث على الأسى بالنسبة لتمدرس الفتيات. لا يزال المغرب يحتل في هذا المجال مرتبة غير مشرفة على الإطلاق، والحال أن الدولة تبذل جهودا جبارة، والحال أن الميزانيات المخصصة، متى نظرنا إليها بعين الإحصاء المجرد، تفي بالقصد. الداء يكمن في مواطن أخرى ويرجع لأسباب تتصل بسوء التدبير تارة، ولدواع اقتصادية تتصل بواقع البادية المغربية، ولقضايا تتصل بالثقافة الاجتماعية وما شابه ذلك.

المشكل الثاني الكبير، أو القضية العظمى التي تؤرق رجال التعليم والمسؤولين عن إدارة الشأن العام، فهي من أسباب التعثر في إنجاح المهام التعليمية في المغرب، وهي أحد العوامل الكبرى التي تجعل المغرب يحتل من الدول النامية عامة رتبة متأخرة، هي ما يدعوه رجال التربية والتعليم في المغرب بـ«الهدر المدرسي». هنالك هوة سحيقة تقوم بين أعداد التلاميذ الذين يلجون أقسام الدراسة في السنة الابتدائية الأولى والذين يتمكنون من الحصول على شهادة في مستوى السلك التعليمي الثانوي الأول(ما يعادل الخمس عشرة سنة من أعمار التلاميذ). المعطيات الإحصائية، في هذا الصدد، تبعث على الأسى، والأسف على ضياع وتبدد جهود مالية وبشرية هائلة. لا نريد الخوض في التفاصيل، ولكننا نريد أن نضع اليد على مؤشر كبير وخطير ودال معا على ضعف المنظومة التعليمية في المغرب عامة.

المشكل الثالث الكبير، ظاهرة التباين الهائل في التعليم بين المدرسة العمومية والتعليم الخصوصي (أو الأهلي كما يقول الإخوة في المشرق العربي)، وباطنه الاضطراب في التكوين عامة في مراحل التعليم السابق على المرحلة الجامعية عامة وفي مرحلة التعليم الابتدائي خاصة. مشاكل كثيرة متداخلة في واقع الأمر: اكتظاظ فظيع في صفوف الأقسام الابتدائية، في الأغلب الأعم من الأحوال، وشبه فراغها، أحيانا قليلة في مناطق معينة - وبالتالي سوء توزيع يرجع لأسباب كثيرة، مما لا نملك الخوض فيه دون الابتعاد عن طبيعة الحديث الذي نريده. اضطراب وتشوش في الاختيارات التربوية وكذا في البرامج والمناهج. يتساءل الكثير من أرباب التلاميذ في استنكار: لماذا كان التعليم، في مرحلة دراستنا الابتدائية يستوجب التوفر على كتابين مدرسيين فحسب، أحدهما للغة العربية والآخر للفرنسية، في حين أن التعليم الابتدائي اليوم يستلزم التنقل بأحمال من الكتب ينوء الطفل الصغير بحملها - والمذهل أن التعليم أدنى بكثير مما كان عليه في الزمن القديم؟ الحق أن قضية المدرسة العمومية في المغرب تعرض لجملة مشكلات وأغاليط بل وأراجيف، فالأمر لا يخلو من كذب صريح ومن اتهامات كاذبة للمدرسة العمومية في المغرب. يكفي أن نقول إن ما لا يقل عن ثلثي المدرسين في الثانويات الخصوصية في المغرب هم من العاملين في قطاع التعليم بصفتهم موظفين عاديين. السؤال المؤرق هو: لماذا كانت المردودية ضعيفة في جانب، بل كارثية، وكانت إيجابية، بل ممتازة في جانب آخر؟

إجمال القول في ضعف المنظومة التعليمية في المغرب جاء مؤخرا على لسان ملك المغرب ذاته، ليكون إنذارا وتنبيها للحكومة من جهة أولى، ودعوة إلى وجوب الانكباب على مراجعة المناهج والاختيارات حتى يكف التعليم عن أن يظل تلقينا من جهة واستقبالا سلبيا من جانب آخر، بعيدا عن تكوين الروح النقدية الواجبة والعمل على الإشراك الفعال للمتلقي - وهذا بعض مما ورد في الخطاب الأخير للملك محمد السادس بمناسبة الاحتفال بذكرى ثورة الملك والشعب وكذا الاحتفال بعيد الشباب الذي يصادف، في المغرب، ذكرى ميلاد ملك البلاد. والعادة في المغرب قد جرت، منذ عهد المرحوم الحسن الثاني، أن يكون الخطاب في المناسبة الثانية المذكورة منصبا على الشباب وعلى القضايا الكبرى التي تشغل الشبيبة في المغرب.

على أي نحو ترى أن العلاقة ستقوم بين خطاب الملك والدخول السياسي المقبل في المغرب؟ ما الشأن بالنسبة للحكومة نصف الملتحية.

جوابان سنحاولهما في المقال المقبل بحول الله.