بوادر «استقلال».. في لبنان

TT

رسميا، استقل لبنان عن فرنسا عام 1943.

شعبيا، استقل لبنان عن سوريا عام 2005.

عمليا ظل استقلال لبنان على مر العقود مجرد «حلم لاح في خيال الساهر»... والحلم تبخر، مع الأيام، بفضل طروحات، وممارسات، طابور خامس من السياسيين والعقائديين اللبنانيين حولوا التبعية إلى سوريا، كائنا ما كان نظامها، إلى موقف وطني بل قومي أيضا.

إن إفراط بعض غلاة «الانعزاليين» في غيرتهم على استقلال لبنان، حتى عن واقعه ومحيطه العربيين، ربما نفر معظم اللبنانيين من لبنانيتهم، إلا أن استقلال «القرار» اللبناني بقي مطلب كل لبناني ارتضى «نهائية» وطنه التي نص عليها اتفاق الطائف.

مع ذلك قد يكون من المبكر إدراج بعض المواقف الرسمية اللبنانية الأخيرة في خانة استعادة القرار المستقل عن «الجيران»، القريبين والبعيدين، وعن ضغوط طابورهما الخامس في الداخل المتلطي عادة بالشعارات القومية الطنانة، ولكنها قطعا مواقف تحمل في ثناياها بوادر ثقة متنامية بقدرة لبنان على اتخاذ مواقف «مستقلة» عن الخارج.

على سبيل المثال، الرئيس اللبناني ميشال سليمان، أعلن أن العلاقة المميزة مع سوريا «ليست مرهونة بفريق سياسي في لبنان ولا بمن يحكم في سوريا»؛ كونها «علاقة تاريخية» بين شعبين ودولتين، أي أنها علاقة متجذرة تاريخيا وجغرافيا وليست علاقة تبعية بين فئة من «العقائديين» اللبنانيين والنظام السوري. وعليه، لم يتردد الرئيس اللبناني في الدعوة إلى «تصحيح الشوائب» و«تعديل الاتفاقات» المعقودة بين الدولتين «لما فيه مصلحة البلدين وتأمين سيادة الدولتين وإزالة الالتباسات».

بدوره، رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، يعلن أن سياسة النأي بالنفس التي تعتمدها حكومته، تقف عند حدود التدخل بالشأن السوري، «ولكن عندما يحصل أي قصف سوري على مناطق لبنانية نحن لا ننأى بأنفسنا بل نحتج».

وقبل ذلك بقليل، وفي سابقة لم تخف دمشق استياءها منها، أشار قائد الجيش اللبناني جان قهوجي إلى أن دمشق أبلغت لبنان اعتذارا رسميا عن القصف المدفعي على قرى حدودية لبنانية، في سابقة «تواضع» سوري غير مسبوقة.

إلا أن الموقف الداخلي الأكثر تعبيرا عن الرغبة اللبنانية المتنامية في استعادة القرار السياسي المستقل عن الخارج يعود إلى رئيس البرلمان، نبيه بري، وإلى تغطيته الجريئة لعملية انتشار الجيش اللبناني في ضاحية بيروت الجنوبية، التي كانت محرمة على الشرعية اللبنانية. وحين يؤكد بري أنه «مع بسط الدولة سلطتها في أي مكان وعلى طول الأرض اللبنانية» ويطالب الأجهزة الأمنية بتنفيذ الدور المطلوب منها «من دون اعتراض»، لا يكون بري في وارد الإعلان عن موقف سياسي فحسب، بل في موقع توجيه رسالة إلى الداخل والخارج معا مفادها أن الوقت حان لأن تعود الدولة إلى كل لبنان بكامل أجهزتها الرسمية.

ربما طفح كيل المسؤولين اللبنانيين من مسلسل الاعتداءات السورية على القرى الحدودية اللبنانية.

وربما شعروا من المعاملة السورية الفوقية لهم أن سياسة «توطية» حائط لبنان تفقد الدولة هيبتها إلى حد إلغائها في بعض المناطق.

وربما ازدادت ريبتهم مما يخبأ للبنان بعد أن انكشفت، بالصوت والصورة والاعترافات، عملية تورط الوزير السابق المحسوب على النظام السوري، ميشال سماحة، في نقل أسلحة وعبوات إلى لبنان بأوامر من مسؤول أمني سوري كبير.

إلا أن كل هذه المعطيات السياسية لا تحجب واقعا إقليميا يجعل استعادة لبنان لقراره المستقل فرصة قد لا تتكرر مرتين.. تخبط النظام السوري بتعقيدات داخلية ودولية تجعله أعجز من أن يتصدى لتيار الاستقلال اللبناني.

في السياسة كما في التجارة: الأمور مرهونة بأوقاتها. وإذا فوت اللبنانيون هذا الظرف المتاح اليوم لاستعادة استقلال قرارهم وإعادة إحياء الدولة، فقد لا يكون من المبالغة في شيء القول إنه لن يحييها، بعد الآن، إلا من «يحيي العظام وهي رميم».