نتائج المعالجات الطبية.. الواقع والإخفاقات

TT

حينما نريد أن نرفع المستوى الصحي في مجتمع ما فإن علينا أن نتوجه بالأولوية نحو الأمراض الأكثر شيوعا والأعمق تسببا في الضرر والأعلى كلفة مادية ضمن فاتورة مصروفات ميزانية الرعاية الصحية. وعليه، لو قيل لنا، ووفق إحصائيات علمية وحسابات اقتصادية - طبية، إن في مجتمع ما مرضا معينا يصيب ثلث السكان ويتسبب في وفاة ألف شخص يوميا وتبلغ تكلفة معالجة مرضاه سنويا 131 مليار دولار، فإننا نتوقع تلقائيا أن لا تنصب جهود الأوساط الطبية في ذلك المجتمع بشكل مكثف على معالجة ذلك المرض فحسب، بل إن جهود تلك الأوساط حققت نجاحا بنسبة مرتفعة في معالجته بالشكل المطلوب.

ولكن ماذا لو أن نسبة نجاح الجهود الطبية لا تتجاوز 50% من قبل الوسط الطبي الأكبر تقدما عالميا، وفي المجتمع الأعلى قدرة عالمية في الإنفاق على الرعاية الصحية؟

دعونا نتأمل التالي: مرض ارتفاع ضغط الدم يصيب ثلث سكان الولايات المتحدة عموما، وتحديدا إن الثلثين ممن هم فوق 67 سنة مصابون بارتفاع ضغط الدم، وذلك وفق ما تقوله لنا أحدث إحصائيات «مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها» (U.S. Centers for Disease Control and Prevention CDC) الصادرة في 4 سبتمبر (أيلول) الحالي ضمن «التقرير الأسبوعي للمرضى والوفيات» (Morbidity and Mortality Weekly Report). وهذا يعتبر من الأسباب الرئيسية في الإصابات بالنوبات القلبية القاتلة والسكتة الدماغية، ناهيك بقائمة طويلة من المضاعفات والتداعيات المرضية الأخرى. وإن معالجة 67 مليون إنسان أميركي مصابين بارتفاع في ضغط الدم تكلف المجتمع الأميركي إنفاق 131 مليار دولار سنويا، أي أننا نتحدث عن رقم يفوق مجموع ميزانيات عدة دول في العالم، وإن هذا المرض يودي بحياة ألف إنسان يوميا في الولايات المتحدة. وعلينا تذكر أن ارتفاع ضغط الدم مرض أقل ما يمكن وصفه أنه «مرض بسيط» في طريقة معالجته، مقارنة بالأمراض الأكثر تعقيدا والأقل معرفة طبية في كيفية معالجتها، مثل أنواع شتى من الأورام السرطانية، وأنواع أخرى من الإصابات الميكروبية كالإيدز وغيره، وأنواع شتى من الأمراض التي تتطلب معالجات جراحية معقدة كالعيوب الخلقية في القلب أو أمراض شرايين القلب وغيرها. وما هو مطلوب لعلاج هذا المرض هو إجراء قياس ضغط الدم للمريض وإعطاؤه العلاج كي يتناوله بانتظام، ومتابعة مقدار ضغط الدم لديه بعد تناول العلاج، للوصول إلى عودة مقدار ضغط الدم إلى المعدل الطبيعي، الذي لن يكون لدى الغالبية العظمى من المرضى إلا بتناول الأدوية. هذا كله مفهوم، ولكن ما هو غير مفهوم الحقائق التالية الذي ذكرها التقرير:

- أولا: نصف مرضى ارتفاع ضغط الدم بالولايات المتحدة لا يزال لديهم ضغط الدم مرتفعا على الرغم من أن غالبية مرضى ارتفاع ضغط الدم في الولايات المتحدة يراجعون الطبيب مرتين سنويا في العام على أقل تقدير.

- ثانيا: 22 مليون أميركي يعلمون أن لديهم مرض ارتفاع ضغط الدم ومع ذلك لا يعالجون منه.

- ثالثا: 14 مليون أميركي مصابون بمرض ارتفاع ضغط الدم، وتم رصد ذلك الارتفاع لديهم عبر عدة قياسات للضغط خلال مراجعاتهم الطبية، ومع ذلك لم يخبرهم أطباؤهم بأنه تم تشخيص إصابتهم بهذا المرض، وبالتالي ليسوا على علم بالأمر الحاصل في أجسامهم.

- رابعا: 16 مليون أميركي مصابون بارتفاع ضغط الدم ولا تعالجهم الأدوية، إما بسبب عدم وصف الأطباء العلاج الصحيح واللازم لهم لضبط ضغط الدم لديهم، وإما بسبب صعوبات مالية لديهم في دفع الكلفة المادية، وإما صعوبات أخرى تحول دون حصولهم على العلاج الدوائي اللازم لضبط ارتفاع ضغط الدم. هذا مع العلم بحقيقة أكدها التقرير، وهي أن الأدوية تفلح في علاج كل مرضى ارتفاع ضغط الدم تقريبا حين وصفها من قبل الطبيب بصفة صحيحة وتناولها من قبل المريض بطريقة سليمة. ودون ذكر خامسا إلى خامس عشر، قد تكفي هذه الغرائب من التقرير الصادر عن أعلى وأهم مرجعية في الإحصائيات الطبية للمجتمع الأميركي. وعرض ما تقدم ليس إسهابا ولا تطويلا في السرد القصصي، بل هي الصورة الواقعية التي نحتاج في الوسط الطبي إلى رؤيتها بكل تفاصيلها المحبطة. وما يحصل في المجتمع الأميركي، على الرغم من توفر كل عوامل النجاح نظريا، يحصل ربما أسوأ منه في المجتمعات ذات الحظ الأقل في توفر عوامل نجاح المعالجات الطبية. والسؤال ليس من نوعية القفز البهلواني إلى «أوكي.. علمنا بالمشكلة ولكن ما هو الحل؟»، بل السؤال هو: هل تدرك الأوساط الطبية إلى أين تصل نتائج جهودها؟ بمعنى آخر، صحيح أن مرحلة دراسة أسباب المشكلة آتية لا محالة إذا أردنا حل المشكلة، ولكن قبل هذه المرحلة هل الأوساط الطبية ترى وبشكل مستمر تفاصيل الصورة الحقيقية للواقع ونتائج جهودها التي تقدمها ليل نهار في محاربة قائمة طويلة من الأمراض؟

إن عملية تقييم كيفية الأداء ومتابعة نتائج الإنجاز أساس في عملية رفع مستوى جودة تقديم خدمات الرعاية الصحية، وهذا لا يمكن أن يتم دون وجود خطة مطبقة لجمع البيانات بغية تكوين إحصائيات واقعية تستخدم بطريقة صحيحة.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]