نصف رغيف أفضل من مضغ الهواء

TT

صب محتجون على مقالة الأسبوع الماضي غضبهم على جملة واحدة من فقرة عن غياب عقلية التصنيع والاستثمار التي خلقها طلعت حرب باشا في مصر ونسوا 90 في المائة بقية المقال عن عصر استمر 200 عام من الابتكارات والمخترعات التي شكلت الاقتصاد الحديث.

المحتجون يدعون أن ما نهبه الرئيس السابق حسني مبارك وأسرته من ثروة مصر يكفي لحل مشاكلها الاقتصادية.

وبلا أدلة موثقة، فمن شبه المستحيل تأكيد ما إذا كان مبارك تعمد نهب الثروة أم إهدارها بسوء الإدارة والتورط في مشاكل خارجية، استمرارا للتقليد الذي بدأه الكولونيل جمال عبد الناصر وسار على نهجه رؤساء جمهوريات انقلاب 1952.

وحتى في حال ثبوت السرقة فلا يمكن تحديد حجم الأموال المزعوم نهبها، والأرصدة، والاستثمارات بلا وثائق التحويلات البنكية، فقد انتهى العصر الذي يخزن فيه الحاكم الفاسد الذهب والجواهر في «زلع» يخبئها في مغارة «علي بابا والأربعين حرامي»!

ويصعب على حاكم، حتى في غياب القوانين، أن ينهب ما يزيد على فائض الميزان التجاري. كان الميزان إيجابيا عشية كارثة انقلاب 1952، فالدخل من التصدير زاد على كلفة المستورد بفائض يسمح بالاستثمار، ودخل الخزانة من الضرائب والرسوم يغطي ميزانية الإنفاق فيغني الدولة عن الاقتراض.

أسباب ربحية الميزان التجاري قبل 1952 تعود إلى الصادرات: القطن (أدخل زراعته محمد علي باشا وطور أولاده مصانع الحلج والغزل)، والمنسوجات والسكر والأرز، وصناعات كالفيلم المصري (بفضل بنك مصر وليد الرأسمالية الوطنية لطلعت حرب باشا)، ودخل قناة السويس، والمنتجات الثقافية والفنية (بفضل الخديو إسماعيل باشا)، والسياحة (بفضل توت عنخ آمون وخوفو ورمسيس وحتشبسوت).

حروب الكولونيل ناصر وصراعاته مع العالم وإهداره الثروة وتأميم الصناعات (وليس بناء المصانع) أدت لخلل الميزان المالي منذ 1956، فاستدانت مصر ودخلت عصر المعونة الخارجية (النقطة الرابعة الأميركية، فالمعونات الأوروبية ومعونات السمك المجمد من روسيا والقمح من كندا والمعونة الأميركية المستمرة منذ 1979).. باختصار منذ 1956 لا يوجد دولار واحد فائض يمكن سرقته.

فساد الاتحاد الاشتراكي فالوطني المباركي تمثل في العمولات التي تلقاها أبناؤه وكبار موظفيه من المستثمرين للترخيص بمشاريع استثمار التفافا حول القوانين واللوائح.

وهنا أدعو مرددي مقولة «مصر كلها خير بس مبارك وأولاده سرقوه» أن يوافوني بدراسة وأدلة إحصائية عما يتخيلونه «ثروة»، ليس فقط آل مبارك، بل كل عصابة الحزب الوطني - الاتحاد الاشتراكي، وهل يكفي إعادتها للخزانة المصرية لحل المشاكل الاقتصادية؟ وهو ما وصفته بالهراء.. فتوزيع ثلاث وجبات متواضعة يوميا على كل مصري يتكلف ألف دولار للشخص في العام، أي 90 ألف مليون دولار في عام واحد من ثروة مبارك المزعومة.

ولا يعقل أن تفوق العمولة نسبة، ولنفترض، 20 في المائة من خالص ربح المستثمر، ولذا فجمع آل مبارك لـ90 ألف مليون دولار عمولات يعني أن الأرباح الخالصة للمستثمرين فاقت 450 ألف مليون، وإذا كانت بنسبة 10 في المائة فقط، فهذا يعني أن استثمارات الحكم المباركي فاقت 450 ألف مليار (بليون) دولار وكانت جعلت مصر أغنى من أميركا!

المثل الصيني «سمكة توفر لإنسان وجبة عشاء، أما تعليمه الصيد فيطعمه مدى الحياة» ترجمته خلق وظائف عمل للمصريين بدلا من توزيع سمكة على كل مواطن.

القول المصري «أعطي العيش لخبازه ولو ياكل نصفه» نظرية اقتصادية متكاملة.. فخباز «حرامي» سيترك نصف رغيف تسد به جوعك، أما إغلاق الفرن باعتقاله فسيتركك تمضغ الهواء.

هل يفضل المحتجون اشتراكية سمكة لكل مواطن بتوزيع 90 ألف مليون دولار يعثرون عليها في مغارة علي بابا مبارك والأربعين نائب حزب وطني على المصريين بالتساوي، أم العودة لاقتصاد طلعت حرب بتعليم المصري مهارات تطعمه مدى الحياة؟

سنويا يدخل سوق العمل المصرية (أرقام مصر الرسمية لعام 2009) قرابة ثلث مليون يحتاجون إلى 280 ألف فرصة عمل جديدة، لكن في العام نفسه لم تخلق إلا 37 ألف وظيفة كلها بلا استثناء في مؤسسات خاصة أنشأها ويديرها من يتهمهم الناصريون والثوار برجال أعمال عهد فساد مبارك.

وباستمرار اقتصاد الفلسفة الناصرية بعقلية الاتكال على الدولة ورئيسها (نظرة على الصحافة القومية المصرية تجدها كلها عن أخبار الرئيس مرسي وانتظار عصاته السحرية لحل المشاكل)، ما هو تصور أصحاب مقولة «مصر كلها خير..» لميزانية عام في خدمات مرفق واحد فقط هو الصحة، ولننس المواصلات والتعليم والأمن ودعم السلع الأساسية لـ90 مليون مستهلك، ولا أقول لخلق 280 ألف وظيفة؟

الخدمات بالمستوى نفسه الذي وفرته وزارة الصحة العمومية عام 1939 (من كتاب الإحصاء السنوي للعام نفسه)، من عيادات مجانية، وأسرّة مستشفيات، وغرف عمليات، وسيارات إسعاف، وأطباء وممرضات، ومراكز صحة ريفية، وقوافل متنقلة لحملات التطعيم ضد الأمراض المستوطنة وعلاجها كالبلهارسيا والملاريا والتيفود والرمد وإسهال الأطفال دون أن نضيف إليها أي خدمات جديدة، ستحتاج 232 ألف دولار في السنة للمواطن بأرقام اليوم. ولنفترض ربع الرقم فقط، أي 100 ألف دولار للمواطن لميزانية عامي 2013 و2014، للعودة بالخدمات تناسبا مع عدد السكان (من مستشفيات وأطباء وحملات تطعيم) إلى مستوى عام 1939.

الميزانية 9000000000000، أي 90 وأمامها 11 صفرا، أي 990 ألف مليون دولار أو 900 مليار (بليون) دولار، فهل يمكن تصور أن الأرصدة التي سرقها «النظام المباركي»، أو «التأميم» الناصري لكل أعمال واستثمارات القطاع الخاص، في 30 عاما ستوفر هذه الميزانية؟ مع تذكر أننا لم نحسب بقية أوجه الإنفاق الحكومي، ناهيك عن استثمارات خلق فرص العمل.

وعودة لمفهوم ابن البلد عن النظرية الاقتصادية، فنصف رغيف الخبز الذي سرقه الخباز الحرامي هو مصدر رزق لسلسلة طويلة من المصريين تبدأ بالفلاح، وصانع المحراث، وجامع محصول القمح، وصاحب الطاحونة، وصانع أكياس التعبئة، ومن يخزنها، ومن يوصلها للمخبز، وبائع أدوات الخبز، وصاحب طلمبة الوقود، وعامل الصيانة، وصاحب المقهى الذي يرتاده الخباز وزبائنه، ومنتج تغليف «نصف الرغيف»، والسائق الذي يوصله إلى بائع الخبز، وصاحب العقار الذي يؤجر منه المحل، والبواب.. إلخ.. إلخ.

فيا أيها المثاليون من دعاة الاشتراكية ومريدي «الزعيم الخالد»، إذا لم تتمكنوا من إقناعنا بالأدلة أن استعادتكم لـ«خير مصر الذي نهبه مبارك» ستحل الأزمة الاقتصادية، فأبوس أيديكم أن تتركوا شعب مصر يأكل نصف الرغيف في سلام!