وماذا عن صاحب السيرة العطرة؟

TT

في كل أزمة سياسية لها علاقة بشأن ديني، نرى مشاهد الغضب والحماس تتغلب على الحكمة والتروي، ومحاولةَ استغلال الحادثة، بشكل عملي، لصالح الدعوة والدين والدفاع عن الرمز الديني وتوضيح الموقف بحقه وتحويل موقف شديد السلبية إلى موقف إيجابي جدا. وتصرفات البعض الذين حركتهم موجة غاضبة كبرى وحماسة بلا حدود لها، تحولت إلى همجية ووحشية أضاعت أصل أسباب الغضب المشروعة، وتحول الناس لشرح وتبرير وتقديم الأعذار عما حدث من فئات محدودة.

الخطأ لا يمكن أن يعالج بخطأ آخر. الصوت الغاضب المتطرف الموتور لا يمكن أن يكون صاحب الصوت الأعلى ولا الوحيد في التحدث عن الإسلام ولا الدفاع عنه، فالعالم الإسلامي دفع - ولا يزال يدفع - فواتير باهظة نظير قصور شديد في فهم وتدبر معاني وروح الدين وسيرة الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم، بحيث أصبح «الاجتهاد» في فهم الكتاب والسنة مجالا خصبا لكل من هب ودب يقرأ ويتدبر المسألة بنفسه، ويقوم بتطبيق ما يراه ويعتقده شخصيا بلسانه ويده أيا كانت تكلفة ذلك الأمر.

ردود الفعل التي صدرت عن أعداد غير بسيطة من المسلمين في مصر وليبيا واليمن، والتظاهر أمام السفارات الأميركية في هذه البلاد بسبب عرض الفيلم المسيء بحق الرسول صلى الله عليه وسلم في الولايات المتحدة وبثه على مواقع بالإنترنت - كانت متفاوتة.

ففي مصر واليمن، كان الأمر واضحا أنه رد فعل شعبي غاضب يعبر عن سخطه ويأخذ موقفا ضد إهانة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن ما حدث في ليبيا يبدو أنه كان عملية معدة بعناية من قبل ذيول تنظيم القاعدة الموجودة في ليبيا، في رد فعل انتقامي ضد اغتيال الشخصية الليبية القيادية في تنظيم القاعدة التي تم قتلها في عملية نوعية من قبل القوات الأميركية في مكان اختبائه بباكستان. وبالتالي، كان واضحا جدا أن تنظيم القاعدة استغل، على ما يبدو، حالة الحماس والغضب الموجودة في العالم الإسلامي لتنفيذ عملية انتقامية عن طريق عناصره المدججين بالصواريخ والغازات والرشاشات، واقتحموا السفارة وقتلوا أربعة دبلوماسيين، وهذه مجرد عينة ونموذج من الأحداث والحراك المتطرف الذي يعتقد، ظلما وبهتانا، أنه يتحدث باسم الدين ولديه وكالة حصرية بذلك، وبات معروفا جدا أن حجم الإساءة الناتجة عن ذلك والأضرار المتراكمة تكلف المسلمين ما هو بحاجة لأجيال للخلاص منه.

الصراع بين الأديان والثقافات ليس بجديد، وهناك من هو مليء بالنقص والدونية والسفالة، من لا جهد له سوى الانتقام من الآخر وازدرائه، كالذي حصل في هذا الفيلم «الحقير» الذي أنتج في الولايات المتحدة عن طريق مجموعة من الأشقياء المأجورين، وهذه مسألة لا يمكن أن تقرها قوانين حريات الرأي والتعبير ولا تسمح بها ألبتة، ولكن لا بد أيضا من الاعتراف الصريح بأن بداخل كل دين وطائفة ومذهب تيارا متشددا ومتنطعا متطرفا، لا يقبل الآخر ولا التفاهم ولا التسامح، وهو يساهم في تطوير المشكلة وزيادة رقعتها لأجل العمل على منع حصولها مجددا، ولكنه بأسلوب أرعن وشديد القصور يفاقم من ضخامة المشكلة.

مشاكل من هذا النوع لن تنتهي وستكون جزءا من الهوة في الخلافات بين الثقافات والأديان، ولكن رفع السقف في العلاج عبر القوانين والأنظمة والاحتجاج بكل وسائله السلمية وتقديم الأعمال التوعوية المطلوبة وعدم افتراض (أنهم يجب أن يكونوا على علم بذلك)، فهم لم تصلهم المعلومات ولا الأدبيات الكافية عن الدين الإسلامي وعن نبيه وقرآنه، ولذلك يبقى الجهل سيد الموقف، مع عدم إغفال أن هناك سوء نوايا لدى البعض مهما بلغوا من العلم عن الإسلام. هناك مطلب ضروري في إعادة النظر في أسلوب التعبير عن الغضب بحيث يتحول لإنتاج مفيد للمسلمين ولمن هم في الضفة الثانية في العالم.

سيرة الرسول الكريم نفسه، صلى الله عليه وسلم، هي الغائب الأكبر عن فكر المسلمين وهم يحتجون ويغضبون، فهو لم يعمل ما عملوا، ولكنه كان دوما يعتمد القدوة الحسنة واللين والرحمة والموعظة الحسنى. وهذا فارق كبير.

[email protected]