فقير وجائع ومريض لكنه صاحب كبرياء عظيمة

TT

أنا فقير، غير أن فقري يشعرني بالكبرياء. إنها كبرياء المنتمين لأغلبية سكان الأرض، وأنا مريض ولكن ليس إلى الدرجة التي يشكل فيها المرض خطرا على حياتي، مجرد فشل في كلية واحدة، أما الأخرى فهي سليمة بنسبة عشرة في المائة على الرغم من الحصوات التي تسكنها، ثم عدة حصوات في المرارة، وفيروس سي في الكبد، والتهاب في الغليظ ليس مزمنا لحسن الحظ، ثم عدة أمراض أخرى لا أهمية لها مثل فقر الدم، بالإضافة للأنيميا الناتجة عن سوء التغذية أو عدم الانتظام في تناول الوجبات، وربما كان السبب هو الهرمونات التي يحقنون بها المواشي المستوردة، أو الأسمدة المسرطنة التي يستوردها رجال الأعمال الأوغاد لإفساد التربة المصرية تمهيدا للقضاء على الشعب المصري.

أحسست اليوم بالجوع على نحو لم أعرفه من قبل. في المرات السابقة عندما كنت أشعر بالجوع كنت أنشغل على الفور بالتفكير في قضية كبيرة تنسيني ما أشعر به من رغبة محمومة في الأكل، ولما كنت قد استهلكت كل القضايا العظمى فإنني فشلت في القضاء على إحساسي بالجوع. إن أي مشكلة على وجه الأرض يبدأ حلها من الاعتراف بها ثم الانتقال من ذلك إلى خطوات حلها، حسنا.. أعترف بأنني جائع.. وأعترف بأن القادر على حل مشكلتي هو ذلك المطعم الفخم على ناصية الشارع.. دخلته، وبلهجة مليئة بالكبرياء طلبت مقابلة مدير المطعم فأدخلوني عليه في مكتبه. رحب بي وأشار إلى مقعد جلست عليه بينما هو يردد بلطف: «أهلا وسهلا».. على الأرجح تصور أنني «زبون سُقع» جئت أتفاوض على حفل عشاء لألف شخص. قلت له: «أنا جائع».. فتهلل وجهه وقال: «ونحن نطعم الجائعين».

فقلت له: «أرجو ألا أخيب رجاءك.. أنا جائع، بل جائع جدا، لا مشكلة في ذلك، المشكلة أنني ليس لدي ما أدفعه، ليس لعيب فيّ ولكن لخلل في نظام العولمة ذاته».. فقال الرجل على الفور وقد اتسعت ابتسامته المرحبة: «يا سلام.. كم أحب ذلك الزبون الجائع بغض النظر عن الفلوس، أنت بالذات ستشعر بالتقدير للأطباق التي نقدمها.. أما ثمن الوجبة فلا تشغل بالك به، فعندما تأتيك الأموال الكثيرة - وستأتيك حتما - تعال وادفع.. وفي كل الأحوال أريدك أن تأكل باستمتاع من غير أن تشغل بالك بحكاية الفلوس هذه.. حسنا.. ماذا تريد أن تأكل، أسماكا أم طيورا أم لحما أم..»؟..

قاطعته: «أي حاجة.. الشيء المؤكد لدي هو أنني جائع وأريد أن آكل أي شيء».. فقال: «اسمع.. اسمح لي أن أختار لك الأطباق المناسبة لحالتك.. اسمع يا سيدي ستبدأ بالشوربة، شوربة لسان عصفور، ثم عدد من أطباق السلطات المتنوعة، وبعدها طبق مكرونة اسباغتي باللحم المفروم المعصج وعليه جبن رومي مبشور، ثم قطعة عملاقة من لحم العجل المشوية المعالجة بتوابل الهند، ثم طبق فواكه أو مهلبية بالمكسرات، ثم كوب شاي أو فنجان قهوة محوجة، أتعهد بأن أقدم لك وجبة تطير بك فوق السحاب».

نظر إليّ وفي عينيه نظرة من ينتظر أن أرقص أمامه من الفرحة، غير أنني نظرت له واجما، فقد شعرت لحظتها بأنني فقدت شهيتي للطعام. قلت له بهدوء: «هل كان لا بد أن تخطط لي الطريقة التي أتناول بها طعامي؟ اسمع.. لقد قلت لك أنا جائع فقط، ولم أقل لك إنني فقدت حرية الاختيار، فحرية الاختيار وحرية التفكير وبقية أنواع الحريات هي ما يبقيني إنسانا.. لماذا تريد أن تفقدني إنسانيتي؟.. لماذا تضع لي شروطا للطريقة التي أتناول بها طعامي؟.. لماذا تفرض عليّ أطباقا لم أطلبها؟.. ها ها.. في البداية طبق شوربة لسان العصفور.. لماذا في البداية؟ هل هي خارطة طريق جديدة يتم بها تطويعي لكي أستسلم وآكل طبقا لخطتك وأولوياتك المتعارضة مع أولوياتي واحتياجاتي»؟..

فتح الرجل فمه ليقول شيئا فصرخت فيه: «لا تقاطعني فأنا لم أقاطعك، دعني أكمل كلامي، أم أنك تعتقد أن من حقك أن تخرسني لمجرد أنك ستطعمني بغير أن أدفع، أقصد بأنني سأدفع في ما بعد؟!.. ألن تكفوا عن فرض شروطكم على الناس؟.. أين الأرز يا رجل؟.. المكرونة الاسباغتي ليست جزءا من تراثي، فلماذا تفرضها عليّ؟.. ثم حكاية لحم العجل، هل سألتني ماذا أفضل؟.. لو تركت لي حرية الاختيار إذن لطلبت منك طبق خضار بلحم الضأن. أنا أنتمي لحضارة مختلفة وعليكم أن تحترموها. أن تملأ الملعقة من طبق البسلة ثم تضعها على طبق الأرز ثم تأخذ ذلك وتشيعه إلى فمك ثم تبلعه بعد عملية مضغ مظهرية سريعة، هذا هو ما يشعرني بالانتماء وباللذة الحقيقية. لو سألتني لأوضحت لك أن الشوربة لا بد أن تقدم مع الطعام وليس قبله، لأنها تستخدم في حضارتنا الغذائية في عملية التسليك، أما قطع لحم الضأن فهي تفقد قيمتها تماما إذا لم تقبض عليها بأصابعك وتقذف بها في فمك. لذة الطعام عندنا تبدأ باللمس وهو ما تحرمك منه الشوكة والسكين. السلطات أيضا لا بد أن تكون موجودة على المائدة طول الوقت، هناك حالات مفاجئة تطرأ على العقل وتتطلب تناول السلطة مع بقية الأطباق. ثم ماذا عن المخلل يا رجل.. ماذا عن الطرشي.. ماذا عن الشطة والبصل المخلل والفلفل؟.. حضرتك نسيت كل ذلك، هل تعرف لماذا؟.. لأنك منشغل بفرض شروطك عليّ.. لأنك انتهازي تنتمي لحضارة انتهازية.. انتهزت فرصة أنني جائع فنسيت إنسانيتك وفكرت في شيء واحد هو أن تفرض علي الطريقة التي آكل بها والأصناف التي تفرضها عليّ»..

انتهز الرجل فرصة سكوتي وقال بهدوء: «هناك نظام عندنا في المطبخ وعليك أن تحترمه، لم اقترب من حريتك في الاختيار أو من حريتك في أي شيء آخر، أنت جائع وتريد طعاما ونحن سنقدم لك هذا الطعام بطريقتنا»..

صحت فيه: «يعني بشروطكم؟.. لا أمل في إصلاحكم».

فكرت للحظات في الخيارات المتاحة لي: هل أفضحه في الجرائد وبرامج الفضائيات؟.. هل أدعو لمظاهرة أمام سفارة بلاده أكشف فيها عن محاولاته المشبوهة والمفضوحة لفرض شروطه عليّ؟.. هل أقوم بتكسير مكتبه على دماغه؟.. أنا لست شخصية تصادمية خاصة عندما أكون جائعا. يجب ألا أفقد هدوئي، إذا انفجرت غاضبا سأخسر معركتي، عليّ أن أتحمل إلى أن تمر هذه الصفحة الرديئة من التاريخ. هناك نقطة مضيئة في الحكاية كلها، هي أنه عاجز عن تحطيم إرادتي، عاجز عن حرماني من حريتي، إلا في حالة واحدة هي أن أسلّم أنا بذلك، ليفرض عليّ شروطه كلها. سآكل.. نعم سآكل ما يفرضه عليّ، لأنني أؤمن بأن التاريخ لن يرحمه هو وأمثاله.. نعم سأوافق على كل شروط هذا الوغد لأنني جائع ومريض وفقير، غير أنني لم أفقد إيماني بعد بالغد حتى لو جاء بعد ألف عام، سيجدني بانتظاره، ومعه عشاق الحرية.. نعم سأراهم وهم يهتفون لي لأنني رفضت أن يفرض أحد شروطه عليّ.. هات يا عم الشوربة وانزل بالسلطات وحياة والدك.