الحوار المرفوض والصراع المقبول

TT

عملا بالتقليد غير المستحب والذي يشكل جزءا من سلوكيات أكثرية دول الأمتين العربية والإسلامية، ونعني بذلك النفور من الحوار الذي هو خير علاج بالنسبة إلى الأزمات، فإن أحد أبرز تعقيدات الأزمة الراهنة في سوريا أن الحوار مرفوض. فالنظام البشاري لا يحاور معارضين، عدا الذين يرتاح إليهم، وقادة المعارضة الموزعون على عدد من عواصم العالم وبعض دول الجوار يرفضون الحوار مع النظام.. أي بمعنى واضح أن كلا منهما يلغي الآخر، وفي هذه الحالة أي حوار هذا الذي سيأخذه على عاتقه الأخضر الإبراهيمي المرحب به من معظم اللاعبين بالموضوع السوري عدا الطرفين المتلاعبين: النظام والمعارضة الخارجية كونهما برفضهما الحوار وإلغاء الآخر للآخر، يبدوان متلاعبين أكثر من كونهما لاعبين.

بداية وقد دخلت الأزمة السورية مرحلة مسعى جديد للتهدئة آملين أن يكون الدخول في الهواء الطلق وليس في نفق، نتمنى للأخضر الإبراهيمي السلامة، فلا يصيبه لا سمح الله مكروه مثل ذاك المكروه الذي أصاب ابن بلده الدبلوماسي محمد الصديق بن يحيى حيث إنهم (المجهولين المعلومين) أسقطوا طائرته يوم 3 مايو (أيار) 1982 على الحدود الإيرانية - التركية عندما بدا أن مسعاه كوسيط بتكليف من رئيس الجزائر آنذاك الشاذلي بن جديد للتوفيق بين عراق صدام وإيران الخميني على أهبة أن يحقق بعض التقدم، الأمر الذي يحرج أطرافا إقليمية ودولية لا تريد للحرب العراقية – الإيرانية أن تتوقف ما دامت هنالك حيوية لدى الجانبين لتحقيق المزيد من الاستنزاف، وبحيث يسقط الطرفان صريعي العناد، وفوق ساحات ملأى بالحطام والجثث، فضلا عن منازل لدى عائلات في البلدين الجارين اتشحت بالسواد لكثرة فقدان الأبناء أو الأزواج في حرب عبثية، طرفاها في النار.

والقول بأننا نتمنى السلامة للأخضر الإبراهيمي يستند إلى أن الرجل يريد مخلصا تحقيق تهدئة سورية - سورية بأمل إنجاز تسوية، تماما كابن بلده الذي سعى لكسر حاجز رفض الحوار من أجل وقف الحرب مدعوما بالإرث الحميد لجزائر الرئيس هواري بومدين الذي على يديه تحقق عام 1975 اتفاق شط العرب بين صدام رجل العراق الجمهوري القوي والشاه محمد رضا بهلوي رجل إيران الإمبراطورية، ومن قبل أن يكون هنالك نضوج للثورة الخمينية التي ورثت من العهد الشاهاني سياسة العناد ولم تجد من «مكارم» عهده سوى «فضيلة» واحدة تتمسك بها وهي الإبقاء على احتلال الجزر الإماراتية الثلاث «طنب الكبرى» و«طنب الصغرى» و«أبو موسى».

هل في استطاعة الأخضر تحقيق فكرة الحوار مدخلا للبحث في تفاصيل التسوية، أم أنه سيعتذر كي لا يحرق شراع مركبه في رحاب «عاصمة الأسديين».. الأمويين سابقا، أم أنه كحل وسط يأخذ بصيغة واقعة «حوار الإخوة الأعداء» التي سبق حصولها قبل أربع وعشرين سنة بين العراق وإيران. وفي ضوء الظروف الراهنة أجد نفسي كصحافي واكب وقائع تلك الصيغة، متنقلا بين بغداد والقاهرة والرياض وجنيف ونيويورك، أستحضر وقائع المشاورات والاجتماعات لتحقيق تلك الصيغة، وكذلك المعلومات التي تيسرت لي بحكم المتابعة للإضاءة على التقليد العربي - الإسلامي غير المستحب، وهو أن الصراع هو المقبول، وأن الحوار هو المرفوض، الأمر الذي جعل الأزمات العربية من لبنان إلى الفلسطينيين إلى مصر والسودان وليبيا واليمن والعراق وتونس والجزائر، على سبيل المثال لا الحصر، تتفاقم ويتساقط على جوانب هذه الأزمات المزيد من الخسائر المادية والبشرية، ثم تأتي الأزمة الراهنة في سوريا لتؤكد حجم الفواجع الناشئة عن أن الحوار لا يعطى فرصته.

وبالعودة إلى عدم احتمال حدوث معجزة الحوار بين سوريا النظام البشاري وسوريا المعارضة، أو المعارضات المنتشرة في الخارج والمحظية بدعم إعلامي لا ينقذ أحدا من الموت ولا دارا من التدمير، وتفضيل الأخضر الإبراهيمي لصيغة حوار من زمن مضى عوض الاعتذار والانصراف بكرامة، أعرض بإيجاز كيف جرى الحوار العراقي - الإيراني لتحقيق الاتفاق بعد إقرار الخميني بضرورة وقف الحرب.

في البداية أعلنت إيران يوم 18 يوليو (تموز) 1988 القبول بقرار مجلس الأمن 598 وأبلغت الأمين العام للأمم المتحدة دي كويار قبولها رسميا. وبعد القبول بدأت الإجراءات لعقد جلسات حوارية بين الطرفين وذلك على وقع احتفالات عراقية بانتهاء الحرب، وموقف رسمي إيراني يؤكد على «أن وقف إطلاق النار لا يعني إنهاء الحرب ولا التآمر على الثورة الإسلامية». ثم انتهت اتصالات دي كويار إلى ترتيب جلسات حوار في المقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف بين وفد عراقي يترأسه وزير الخارجية طارق عزيز (ما زال في السجن، وفي حالة صحية بالغة السوء يرفض رئيس الوزراء نوري المالكي الإفراج عنه) ووفد إيراني يترأسه وزير الخارجية علي أكبر ولايتي (يشغل الآن منصب مستشار المرشد آية الله خامنئي للشؤون الدولية). تم التفاهم أولا على أن يكون الكلام في جلسات التفاوض باللغة الوطنية، يتحدث طارق عزيز بالعربية ويجلس مع أعضاء من الوفد المرافق (16 عضوا) إلى يمين طاولة أعدت ومقاعدها وفق أسلوب في غاية الدقة، ويجلس مقابله ولايتي وأعضاء من الوفد الإيراني (16 عضوا)، ويتوسط وفد الأمم المتحدة الوفدين، وبموجب الترتيبات يدخل الأمين العام دي كويار قبل الوفدين ويجلس وحوله أعضاء الوفد الأممي، ثم يدخل الوفدان في وقت واحد، وكل من غرفة خاصة به. عند الكلام لا يخاطب طارق عزيز نظيره الإيراني، وإنما بموجب سيناريو الحوار المتفق عليه الكثير البرودة أو الجفاف يخاطب دي كويار وكأنما هو ولايتي، ويفعل الشيء نفسه ولايتي عندما يتحدث. وكما هنالك من يترجم كلام كل منهما بلغته الوطنية إلى الآخر فإن هنالك من يتولى ترجمة كلام الاثنين إلى اللغة الإنجليزية لكي يعرف دي كويار ماذا يقول كل منهما. واستحضر الجانبان أمثلة شعبية وأقوالا مأثورة لدعم موقفيهما مثل عبارة «ما قل ودل» التي استعملها طارق عزيز تعليقا على مطولات ولايتي، ومثل المثل الفارسي الشائع «لكل مقال مكان ولكل أمر موضع» رد به ولايتي على الغمز العزيزي. أما دي كويار فكاد يغفو من شدة الملل والاستغراب لهذا الجدل العقيم بين طرفين من مصلحة كل منهما التفاهم مع الآخر وليس استعمال مفردات الصراع في اللقاء الذي يتطلب مفردات الحوار الذي يحقق نتائج لمصلحة الشعبين. وعندما يعتذر دي كويار عن مواصلة البقاء في جنيف والسفر إلى لشبونة لارتباطه بموعد عشاء إلى مائدة رئيس البرتغال يتبين لنا مدى ضيق الأمين العام للأمم المتحدة من التفكير غير المجدي الذي يتسم به أسلوب الطرفين العراقي والإيراني اللذين انتقلا بعد ثلاث جولات في جنيف إلى التحادث في رحاب المنظمة الدولية في نيويورك، وفي هذه الرحاب لم يتبدل الموقف كثيرا باستثناء وعود بالمزيد من التعاون في حال استئناف جلسات التفاوض في جنيف التي أوضح طارق عزيز تفضيله لها بسبب قربها الجغرافي من بغداد وطهران معا، وبحيث إذا دعت الحاجة إلى مجيء مسؤولين لتعزيز الوفدين أو تغيير بعض الأعضاء على نحو ما يحدث في مباريات كرة القدم، أو ربما لتفادي التنصت على اتصالات الوفد بالمركز، فإن ذلك لن يستغرق أكثر من أربع ساعات طيران بدلا من 12 ساعة طيران تستغرقها الرحلة من بغداد وطهران إلى نيويورك. أما ولايتي فرأى أن يبقى التفاوض في نيويورك. لماذا؟ ربما لأن طارق عزيز فضل جنيف ولو أنه اختار نيويورك لكان ولايتي سيقول إنه يفضل جنيف. إنه أسلوب المكايدة.

ذلك ما حدث قبل 24 سنة وكان دون جدوى، وتنوعت التداعيات المأساوية للحرب العراقية – الإيرانية. وهذا مرشح للحدوث بالنسبة إلى الأزمة السورية، أو بالأحرى الحرب السورية - السورية إذا كان العناد سيبقى سيد الموقف. ومرة أخرى، ندعو للأخضر الإبراهيمي بالسلامة وللوعي السوري المشترك باستعادة سريعة. وأما أي روح سورية فاضت أو طفولة تشوهت أو نزفت وأي عجائز أضناهم اللجوء، فإنها في رقاب المتسبب إذا تسبب عن سابق عمد، والفاعل إذا فعل وأمعن بالفعل، والقادر على درء الخطر لكنه لا يبادر، والمستبد برأيه دون أن يأخذ في الاعتبار أنه في نظر الإمام علي (رضي الله عنه) يهلك شر تهلكة.