«أشجع أوركسترا»

TT

بهاتين الكلمتين وصفت الصحف البريطانية الفرقة الشبابية الوطنية العراقية السيمفونية التي هزت عالم الموسيقى في شتى المدن البريطانية بما قدمته من أعمال، شوبرت وفوريه ومكسويل ديفيز وسواهم. شباب من العراق، كُرد وعرب، يعزفون هذه الأعمال الجبارة أمام جماهير من المتذوقين العارفين والمتخصصين. بيد أن هذا الإقدام لم يكن العنصر الوحيد الذي أثار إعجاب الصحافيين الإنجليز بشجاعتهم.. فقصتهم قصة بطولية تحدوا بها الإرهابيين والمعممين المتشددين. رأى هؤلاء أن الموسيقى حرام، رغم كل ما تذيعه طهران وبغداد من موسيقى. ولكن هؤلاء المتشددين لم يذهبوا ويحطموا ميكروفونات الإذاعة بل راحوا يهاجمون الفنانين ويكسرون آلاتهم. قيل إنهم قتلوا بعضهم.

بيد أن ذلك لم يثن هؤلاء الشباب عن حبهم للموسيقى وللفن عموما. لا بأس أن تعزف في البيت لأهلك وأصحابك بعد أن توصد الباب وكل نوافذ البيت. هذا لا يكفي. يريد العازف أن يعزف مع أوركسترا وبمصاحبة الآخرين.

بارك الله بالإنترنت وما فعلته من دور في الربيع العربي. ولكن هنا استجابت الإنترنت لأحلام هؤلاء الشباب العراقيين.. أخذوا يتبادلون الأفكار والملاحظات ويعزفون لبعضهم البعض ويندمجون في العزف ويتلقون التوجيهات من كبار الأساتذة المايسترو، من داخل البلد وخارجه، وكله بالإنترنت يا عيني، وبالبلاش، والله يزيد ويبارك أفضال العلوم والتكنولوجيا. وأخيرا تآمروا على تحدي المعممين وقنابل الإرهابيين، فتجمعوا في كردستان، أمل العراق وحاملة شعلة التحرر والتقدم في العراق. قضوا أسبوعين في التمرين والاستعداد الجماعي كأوركسترا. رحلوا إلى إنجلترا حيث سمع بحكايتهم الموسيقيون وعشاق الموسيقى فانهالت التبرعات عليهم وتطوع كبار الموسيقيين بالعزف معهم وقيادتهم وتوفير الإمكانات لهم، السير بيتر مكسويل ديفز، وجوليان لويد وبر، وغوردن مكفرسن، وسواهم.

سمعت بحفلتهم التي قدموها في قاعة الملكة إليزابيث. ذهبت وتصورت نفسي أتصدق عليهم بالحضور وشراء تذكرة. تصورت أنهم سيعزفون لقاعة نصف فارغة. ولكنني ذهلت عندما وجدت أن البطاقات قد نفدت وأمامي صف طويل ممن ينتظرون. هممت بالانصراف يائسا، ولكن صديقي نبيل الحيدري خف إليّ وأعطاني تذكرته.. «أنت أولى يا أبو نايل بحضور الحفلة».. جزاه الله خيرا. فما سمعته من عزف ولا سيما السيمفونية الرابعة لشوبرت والعزف المنفرد على العود لخيام اللامي لم ينقص بشيء عما سمعته طيلة حياتي من عزف وأداء.

كان ذلك في يوم تلقيت فيه إيميل من صديق آخر، الإذاعي فلاح أحمد، يحمل فيلم «أبي فوق الشجرة» لعبد الحليم حافظ. قلت ما هذا؟ اعتدت على تلقي إيميلات سياسية من فلاح. ماذا دهاه ليرسل لي فيلما استعراضيا، غناء ورقص وكيف؟ صبرت وتفرجت على الفيلم، فإذا به رسالة بليغة.. تذكرنا بأيام الخير، أيام الحرية والوعي والتسامح، الأيام التي لم تحرم الموسيقى والطرب. إنني أكره الماضي وأفكر فقط في المستقبل.. فيا ويلي من زمن أصبحت أحن فيه لأيام مضت وفاتت!