قبل الصراخ.. نظرة هادئة إلى المستفيدين من الفيلم - الفتنة

TT

«جميع المساوئ تتساوى عندما تجنح إلى التطرف»

(بيار كورناي)

اختتم البابا بنديكتوس السادس عشر بابا الفاتيكان بالأمس زيارته إلى لبنان، البلد العربي الوحيد الذي يرأسه مسيحي، والبلد العربي الوحيد التي حاول أبناؤه التعايش بمستوى معقول من المكاشفة، ولو بلغت في بعض المفاصل التاريخية حد المواجهة المسلحة.

الإيجابية الأساسية، وقد تكون الوحيدة، في وضع لبنان هي أن التشنج الذي يحكم الاختلاف الديني والمذهبي فيه ظاهر ومعلن.. بحيث لا يحتاج اللبنانيون إلى إخفائه. وهذا واقع يسمح بالتعايش الصحي في حال توافرت عناصر التعقل والنية الطيبة والتفاهم على الأولويات، وتراجع دور التلاعب الإقليمي والتحريض الدولي.

هذا الحال مختلف عنه في الأقطار العربية التي تجد راهنا صعوبة في تنظيم التنوع، والقبول بالاختلاف. وهو مختلف أيضا حتى في دول العالم المتقدمة التي أخفقت نسبة من أبناء الجاليات المسلمة المستقرة فيها في التأقلم مع مجتمعاتها، وهذا ما لمسناه ونلمسه من ردات الفعل اللامسؤولة عبر دول العالم على فيلم تافه.. حقير المضمون وسيئ النية.

في الغرب، المشكلة لها أبعاد مختلفة من حيث التفاصيل عنها في دول العالمين العربي والإسلامي. ومن الواضح أن عوامل ديموغرافية واقتصادية واجتماعية تساهم في الغربة الثقافية التي يشعر بها الشباب المسلم من أبناء الجيل الثاني والجيل الثالث في الدول الأوروبية وأستراليا وكندا وحتى في الولايات المتحدة.

علاج هذه الظاهرة يحتاج إلى بحث مطول غير متاح الآن، لكن قد يكون ممكنا الاكتفاء بما يلي:

أولا، هناك أزمة فكرية في العالم الإسلامي ما عاد جائزا التقليل من شأنها. ولا أدل على ذلك من الطريقة التي تتعامل بها بعض التيارات الإسلامية مع حكومات تنظيمات وأحزاب إسلامية تولت السلطة فعليا في دولها، وهذا لا ينطبق فقط على مصر وتونس، بل كان مألوفا في الدولة الحديثة الوحيدة التي أسست لتكون دولا مسلمة.. أي باكستان. إن ازدهار التجربة «الطالبانية» – «القاعدية» في العالم الإسلامي، بما تحمله من انتشار التيارات التكفيرية والجهادية التي ترفع اليوم راياتها السوداء في مناطق عدة من العالم، هي خير سلاح يسلم تسليم اليد لأعداء الإسلام كدين وكحضارة وشعوب. إنها هدية لا تقدر بثمن تهدى إلى عتاة العنصرية الغربية المرتدية زورا مسوح المسيحية... بينما هي في الواقع تيارات فاشية تكفيرية استئصالية من النوع ذاته، ولكن على الضفة المقابلة.

ثانيا، متابعة لما سبق، الفكر التكفيري الاستئصالي والإلغائي باسم الدين ليس حكرا على دين بعينه، فثمة وجه قبيح للمسيحية الأصولية في أميركا وجد له خلال السنوات الماضية مظلة مناسبة في جماعات كجماعة «حفلة الشاي» التي تسعى لسلب الحزب الجمهوري الأميركي روحه وهويته. وفي اليهودية أيضا تيارات أصولية موغلة في التعصب والعنصرية تجد اليوم في أمثال بنيامين نتنياهو و«ليكودييه» المعبر عن أطماعها المدمرة لذاتها وللآخرين. والهندوس المتطرفون أيضا منهم رعاع وغوغاء كأولئك الذي هدموا المسجد البابري في آيوديا عام 1992 بتحريض من قيادات هندوسية يمينية في السلطة.

ثالثا، لا يفيد ضرب التطرف داخل جماعة دينية باستخدام سلاح متطرفي جماعة أخرى. ذلك أن دروس التاريخ القديم والحديث علمتنا أن آفة التطرف لا تهزم إلا من داخل الجسم الذي تنمو فيه. بكلام أوضح، التطرف الإسلامي يقوي التطرف المسيحي ويبرره... ولا يضعفه، والعكس بالعكس. والشيء نفسه يصح على كل أشكال التطرف الديني، وحتى المذهبي، وهوياته. وبالتالي، لا مجال لكبح آفة التطرف، التي غدت اليوم أخطر بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى - بنتيجة ثورة الاتصالات وتقدم تقنية السلاح الفتاك - إلا عبر تحالف القوى الواعية والمستنيرة المعتدلة... التي هي صاحبة المصلحة الحقيقية في حوار الحضارات وتعايشها.

رابعا، من المفترض بأولئك الذين استبدت بهم حمية الدفاع عن الدين الحنيف ضد الجهة التي كانت وراء فيلم الفتنة التافه، أن يتفكروا، ولو لبرهة، بالجهات المشبوهة صاحبة المصلحة في الفتنة المفتعلة، ولا سيما أن من دفعوا أموالا لقاء إنتاج الفيلم أو ترجمته ودبلجته، كانوا يدركون مسبقا أي رد فعل سيثير، وهذا بالقياس إلى ردات الفعل السابقة على إساءات من نوعية كتاب سلمان رشدي، أو الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية وغيرها.

القصد، إذن، واضح والنية واضحة وردة الفعل المحتملة متوقعة ومحسوبة. وثمة جهات مستفيدة من الفتنة، فهل خطر للجموع التي نزلت محتجة تحت خفق الشعارات السوداء أي جهة في المجتمعات التي تتظاهر في مدنها... ستستفيد من التأزيم والتفجير؟

في اعتقادي أن المستفيد الأول - إذا سمح لنفسه بالانزلاق إلى درك الاستغلال الرخيص - سيكون اليمين الأميركي المتطرف الذي يريد أن يذهب في «صراع الأديان والحضارات» الى حيث يرفض الليبراليون الديمقراطيون أن يذهبوا، وهذا قبل أسابيع قليلة من موعد انتخابات الرئاسة الأميركية. إن رفع أعلام «القاعدة» في الشوارع... بمفرده كفيل بمنح جماعات «حفلة الشاي» واليمين العنصري الأميركي جرعة دعم انتخابي هي في أمس الحاجة إليها.

والمستفيد الثاني هو اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي سعى ويسعى دائما إلى إقناع الغرب بأن لا طائل من كسب ود العرب والمسلمين... لأنهم في نهاية المطاف أعداء للحضارة الغربية، ولا يمكن الوثوق بهم والرهان على زرع الديمقراطية وتشجيع حقوق الإنسان في دولهم ومجتمعاتهم.

والمستفيد الثالث هو ما تبقى من أنظمة ديكتاتورية في العالمين العربي والإسلامي ما زالت مصرة على «محاورة» شعوبها بالحديد والنار والمجازر الجماعية. والذريعة التي تقدمها أمام العالم، كلما تعرضت للمساءلة، هي أنها تخوض حربا ضد الأصولية التكفيرية، وأنها تمثل الاعتدال، في حين يمثل خصومها – أي غالبية الشعب – التطرف الديني والمذهبي المعادي للحضارة والتنوع. وبالأمس، فقط، خلال لقاء البابا بنديكتوس الساسة اللبنانيين في القصر الرئاسي، قال نائب في أبرز أحزاب محور طهران – دمشق بكل صراحة أمام أجهزة الإعلام إن فريقه السياسي «يريد لبنان بلدا متنوعا تعيش فيه كل الطوائف والمذاهب، .. وعقلية التكفير وعقلية العنصرية الصهيونية هي التي تضرب هذا النموذج الجميل في لبنان والمنطقة». وتابع: «إذا تكلمنا بلغة المخاوف فالجميع يشعر بالخوف، ولكن زيارة البابا تؤكد أن ثمة دولة عظمى روحية لا تريد سياسة التكفير وتريد التنوع». ثم إن أحد كبار الكهنة الموارنة – وهو مع الأسف رئيس جامعة – تبنى موقفا مماثلا عندما شكك بـ«الربيع العربي» معتبرا أنه بناء على ما حمله لتاريخه يهدد الوجود المسيحي في الشرق.

ختاما، إن رفع الأعلام السوداء في الشوارع لا يدافع عن كرامة الإسلام ولا يرفع من شأن المسلمين، بل يكمن الحل في تشريعات دولية أممية تعتبر الإساءة إلى أي رمز ديني إساءة إلى الأديان جميعا، وتحظر إهانة الإسلام والمسلمين بقوة القانون... كما حظر القانون التشكيك بالمحرقة النازية.