فإنك بأعيننا

TT

يبدو أن سيد قطب وهو يفسر الآية رقم 48 من سورة الطور في تفسيره «في ظلال القرآن» كان يملؤه حب جارف، حيث كتب: «يا له من تعبير! ويا له من تصوير! ويا له من تقدير! وهو تعبير فيه إعزاز خاص، وأنس خاص. وهو يلقي ظلا فريدا أرق وأشف من كل ظل.. ولا يملك التعبير البشري أن يترجم هذا التعبير الخاص».

وهناك قصة مثيرة للاهتمام تفسر لماذا أريد التركيز على هذا الجزء من الآية القرآنية. ففي الأسبوع الماضي، ذهبت إلى الدار البيضاء للمشاركة في الندوة التي عقدها مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات»، وصباح يوم الأحد الماضي، كنت أسير في طرقات الدار البيضاء، وكانت لدي فسحة من الوقت تسمح بالذهاب إلى الحلاق، وتذكرت أنني منذ 5 أشهر كنت عند حلاق في خان الخليلي في القاهرة، ومنذ شهرين كنت عند حلاق في طنجة، والآن جاء الدور على الدار البيضاء. وقد كانت تجربة رائعة، حيث إن هذه الطريقة تعد من أفضل الطرق للحديث مع الأهالي والتعرف على الناس والبلاد والحكومة. ونبينا العظيم محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول: «خذ العلم من أفواه الرجال».

بل إن فاطمة مرنيسي في الفصل الأول من كتابها «المرأة والإسلام» تروي قصة هامة عن متاجر البقالة في مدينتها، وأنا أرى أن وجهات نظرها وأحكامها مفيدة للغاية: «سألت البقال الذي أتعامل معه، والذي يعتبر، مثل معظم البقالين في المغرب، ترمومترا صادقا للرأي العام».

ولأسرد عليكم بعض النقاط التي لاحظتها؛ أولا: كل من يعملون لدى الحلاق الذي ذهبت إليه كانوا شبابا في العشرينات أو أوائل الثلاثينات من عمرهم. ثانيا: كانوا أناسا متدينين، حيث كان معظمهم يستمع إلى آيات القرآن في الإذاعة أو على أشرطة الكاسيت. ثالثا: كانوا جميعهم على استعداد لمناقشة القضايا السياسية. وأخيرا، فقد كانوا يعتبرون أن كلا من القيم الإسلامية والعالم الإسلامي له أهمية وجاذبية خاصة. وفي الدار البيضاء، سمعت العجمي يتلو القرآن: «واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا» (الطور 48).

وقد كان هذا الحلاق شابا أعزب اسمه رضوان، وحلمه هو إسعاد والدته وأشقائه الثلاثة وشقيقاته الثلاث، الذين كانوا جميعا أصغر منه سنا، حيث قال: «لقد وقفت حياتي على أسرتي. لن أتزوج إلا بعد أن تصبح أمي سعيدة حقا وتضحك بأعلى صوتها».

وسألته عن رأيه في الآية الكريمة: «فإنك بأعيننا»، وكانت إجابته غير متوقعة إلى حد بعيد؛ فنحن غالبا ما نتوقع من الكتاب والفلاسفة وعلماء العقيدة أن يطرحوا نقطة تتسم بالذكاء، لكن رضوان أخبرني مثل أي أب أو أم: «إن الله عز وجل يحفظ رسوله ليس في حياته فحسب بل في يومنا هذا أيضا، حيث يكثر الظلم والتآمر ضد المسلمين وضد نبينا الكريم. إن قلبي قوي مثل الجبل ويمتلئ ثقة في أنهم في الحقيقة يخدموننا». فذكرت لرضوان الحديث الشريف الذي يقول: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» (البخاري 3062).

وما تعلمته من رضوان هو أمر في غاية الأهمية، وهو أن الله سبحانه وتعالى يحفظ رسوله ليس في حياته فحسب بل إلى الأبد. ويصف الماوردي في تفسيره «النكت والعيون» 3 معان لمصطلح «بأعيننا»:

أحدها: بعلمنا

الثاني: بمرأى منا

الثالث: بحفظنا وحراستنا

وكما نرى، فإن كلمة «أعين» والضمير «نا» هما في صيغة الجمع، ويوضح بن عجيبة: «وجمع العين والضمير للإيذان بغاية الاعتناء بالحفظ والرعاية».

وربما يكون هناك رابط بين الآية رقم 48 من سورة الطور وهذه الآية رقم 9 من سورة الحجر، التي تتحدث عن حفظ القرآن: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».

والحقيقة أننا نؤمن من القرآن ومن تجاربنا السابقة بأن الله جل وعلا يحفظ نبيه على الدوام.

ويبدو لي أن البلدان الغربية وأميركا بالذات لم تعترف صدقا بالمسلمين ومعتقداتهم وكتابهم السماوي وحبهم الشديد لنبيهم وللقرآن الكريم، ومن الممكن رؤية هذا في تصرفات أمثال سام باسيلي (وهو رجل مجنون يبلغ من العمر 52 عاما ويعمل مقاولا عقاريا في جنوب كاليفورنيا)، الذي يصف الإسلام بأنه سرطان وبأنه دين الكراهية. وقد تحدث باسيلي إلى صحيفة «وول ستريت جورنال» عن فيلمه الضعيف إنتاجيا، الذي يصور النبي الكريم أكثر من مرة على أنه رجل يسافح النساء، ثم يتحدث عن قتل الأطفال، ويشير إلى حمار على أنه «أول حيوان مسلم». فكيف ينبغي أن يكون رد فعلنا تجاه هذه المسألة؟ هذه هي الثمرة الحقيقية للديمقراطية الغربية والأميركية.

إن المسلمين يعيشون على حب النبي الكريم، فهم يحبونه أكثر من آبائهم وأهلهم، وعندما يذكرون اسمه وآيات القرآن الكريم تدمع أعينهم، كما يقول الله في كتابه العزيز: «وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين» (المائدة 83).

ويقول الإمام البوصيري:

فما لعينيك إن قلت اكففا همتا

وما لقلبك إن قلت استفق يهمِ

فهو الذي تم معناه وصورته

ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم

منزه عن شريك في محاسنه

فجوهر الحسن فيه غير منقسم

والنبي محمد يمثل للمسلمين الطريق الساطع إلى الله. والقرآن الكريم يصف الدنيا كلها بالقليل، إذ يقول الله تعالى في سورة النساء آية رقم 77: «قل متاع الدنيا قليل».

ولكن عندما يصف القرآن أخلاق النبي العظيم، فإنه يستعمل كلمة «عظيم»: «وإنك لعلى خلق عظيم» (القلم 4).

وقد شهدنا على مدار العقود الماضية بعض الإساءات التي وجهت إلى النبي محمد؛ ففي البداية كان هناك كتاب سلمان رشدي «آيات شيطانية» الذي يركز على نبي الإسلام، ثم الكلمة التي ألقاها البابا بنديكتوس السادس عشر في ألمانيا، واتهم فيها نبينا العظيم، وثالثا: الرسوم المسيئة التي نشرت في الدنمارك أولا ثم أعيد نشرها في بعض العواصم الأوروبية الأخرى، وخصوصا في فرنسا، ورابعا: ما نواجهه اليوم من إنتاج فيلم يحمل اسم «براءة المسلمين»، وبهذا المسار الحالي ربما نواجه أيضا أفلاما أو كتبا جديدة في المستقبل.

وفي مصطلحاتنا الإسلامية يوجد مصطلح مثير للتأمل وهو: جهد العاجز، حيث يقول علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): «الغيبة جهد العاجز».

وقد بينت ثورات الربيع العربي الهوية الإسلامية حق بيان. انظروا إلى مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، وسوف تجدون من الجلي للغاية أن هناك حركة إسلامية قوية، وخروج أعمال مثيرة للجدل مثل فيلم «براءة المسلمين» وكتاب «آيات شيطانية» والرسوم المسيئة للنبي الكريم وغيرها لا يمكن أن يوقف هذه الحركة بأي شكل من الأشكال، بل إن هذه التصرفات على العكس تخلق جوا يسمح للعالم الإسلامي بأن يرى بوضوح الوجه الآخر لأميركا والغرب.