رجلنا في بنغازي

TT

يعد كريس ستيفنز، السفير الأميركي لدى ليبيا، الذي قُتل في هجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، مثالا على أفضل ما في الخارجية الأميركية، فقد كان ذكيا ومتفانيا في العمل وبارعا. لقد كان يحب عمله ويؤمن بقدرته على فعل الخير. وكان يعرف جيدا ما خلّفه التاريخ من أثر على عقول أهل الشرق الأوسط، لكنه كان يرفض فكرة عدم إمكانية التخلص من إرث الصراعات القديمة. وكان مأخوذا مبهورا بثقافات أخرى، بل كانت تمثل له مصدر إلهام. لم يبذل أي أميركي جهدا أكبر منه لوضع حد لظلم العقيد معمر القذافي. ومثل أكثر الشجعان، كان يتمتع بحسّ دعابة كبير. ويمثل المتعصبون الذين قتلوه أسوأ صورة للإسلام، فقد هاجموا القنصلية في خضم موجة من غضب المسلمين العارم من فيلم أميركي متواضع المستوى يصور الرسول محمد رجلا مأفونا تسيطر عليه رغبة جنسية لا حدود لها. ومع ذلك لا يمكن لإساءة إلى دين، مهما بلغت درجة كراهتها، أن تبرر عملية قتل من النوع الذي يرتكبه الجهاديون على مدى العقدين الماضيين.

ويعد صنّاع وممولو الفيلم «Innocence of Muslims» (براءة المسلمين) والمروجون له أسوأ نموذج للمتعصبين الأميركيين الذين يعتقدون أن الإسلام شر، وأنه يقوم على السيطرة على العالم، ويتبعهم مجموعة من الناس المتطرفين ذوي النهج العنيف وكارهي اليهود وهواة المطاردات الجنسية. يقوم الفيلم، الذي يتضمن إهانات موجهة للمسلمين على خلفية من المواقف الكوميدية الضعيفة، على فكر حظي في أوقات بثناء الجمهوريين مثل نيوت غينغريتش، يصور الشريعة الإسلامية باعتبارها تهديدا مهلكا لأميركا، وأن الجهاديين يتسللون ويدقون على كل باب من فونيكس إلى بيوريا، وعملوا جاهدين من أجل إقناع العالم بأن باراك أوباما مسلم.

أيا كان من صنع هذا الفيلم، فقد حمّله شخص ما يُدعى سام باسيل، ويقدم نفسه كإسرائيلي - أميركي يعمل في مجال التنمية العقارية، على موقع «يوتيوب» في شهر يوليو (تموز). وكان هذا الشخص مدفوعا باشمئزاز غريزي من الإسلام يمثل مكونا أساسيا من تيار كبير في الفكر اليميني في الولايات المتحدة في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). لا عجب إذن أن يحاول ميت رومني، المرشح الرئاسي الجمهوري، مغازلة هذا الفكر في رده على مقتل ستيفنز والدبلوماسيين الثلاثة الآخرين. لقد زعم أن رد الفعل الأول لإدارة أوباما كان «التعاطف مع الذين شنّوا هذه الهجمات»، واصفا ذلك بالأمر «المشين»، وقال: «الاعتذار للقيم الأميركية ليس هو الطريق الصحيح».. ماذا؟!

حتى إذا كان ذلك يأتي من رجل لم يفوت أي فرصة خلال رحلته القصيرة بالخارج في نهاية شهر يوليو (تموز) إلا وقال كلاما غير سليم ودخل في معارك مع البريطانيين والفلسطينيين على أمور تافهة، يظل هذا التصريح الأخير هو الأسوأ. في الواقع لو استعملنا عباراته، فكلامه هذا يعد «مشينا». لم تعرب إدارة أوباما قط عن تعاطفها مع منفذي الاعتداءات، ولم تطلب الاعتذار للقيم الأميركية. ما فعلته السفارة الأميركية في القاهرة عند اندلاع أعمال العنف في العاصمة المصرية وقبلها في بنغازي، كان إدانة «أعمال الذين يسيئون استخدام حرية التعبير العالمية في تجريح معتقدات الآخرين الدينية» خاصة المسلمين.

منذ متى كان المتطرفون، الذين يصورون معتنقي واحد من أعظم الأديان في العالم كمتحرش بالأطفال جنسيا، يمثلون قيمة أميركية؟! إن التسامح الديني قيمة أساسية من القيم الأميركية لا تقل بأي حال عن حرية التعبير. يشير دفاع رومني إلى فيلم بذيء باسم الدفاع الضمني عن حرية التعبير، في الوقت الذي يهاجم فيه خطوات إدارة أوباما من دون وجه حق ولا ينبس ببنت شفة عن الشعور بالكراهية تجاه ما يزيد على 1.5 مليار مسلم في مختلف أنحاء العالم، إلى أنه إما مضلل أو يائس أو كلاهما.

بصفتي مدافعا عن حرية التعبير بشكل مطلق، أدافع عن حق باسيل أو أي من كان في صناعة مثل هذا الفيلم. ويأتي على القدر نفسه من الأهمية تعبير الولايات المتحدة عن رأيها في هذا الغضب. لقد كان الرئيس أوباما محقا حين قال إن الولايات المتحدة ترفض أي محاولات لتشويه معتقدات الآخرين الدينية، في الوقت الذي عبرت فيها عن معارضتها المطلقة «للعنف الذي لا معنى له»، الذي أسفر عن مقتل ستيفنز.

ومنحت مفاجأة شهر سبتمبر الحالي العالم سببا لتقدير ذي العقل الحكيم الهادئ الذي يوجد في البيت الأبيض الآن، وللقلق من الشخص ذي الطبيعة المندفعة الذي يتطلع إلى أن يحل محله. لقد أضاع رومني «فرصة رائعة للبقاء صامتا»، على حد تعبير جاك شيراك الخالد. وتوضح كلماته نهج اتخاذ رد فعل سريع قوي من دون تفكير، وهو نهج أميركا الذي لا ينتشر في وقت التواصل والترابط العميق. وتدل الندوب التي خلفتها الحربان على ذلك.

لقد أدرك ستيفنز أهمية الترابط، فقد أحب بلده، لكنه لم يسعَ لفرض نهجها. في الرابع من يوليو (تموز) العام الماضي بعد فترة قصيرة من مقابلتي له في بنغازي، بعث رسالة إلى أسرته وأصدقائه مع اندلاع الحرب التي كانت تهدف إلى خلع القذافي. وجاء في الرسالة: «تحياتي للجميع. آمل أنكم تحتفلون الآن بمناسبة ذكرى الرابع من يوليو (تموز) بكمية كبيرة من الجعة والآيس كريم والهمبرغر والألعاب النارية الصينية. أتذكر جيدا (الألعاب النارية) التي كنا نستخدمها في (غراس فالي) ونحن صغار نركض حول المرج الأخضر بانطلاق لا حدود له، بينما تشتعل النيران في شعورنا وحواجبنا». لقد احتفل بيوم الاستقلال بإقامة حفل قدّم فيه خروفا كاملا ودجاجا مشويا وسلطات عربية ومعجنات، وانتهى بقوله كلمة عبّر من خلالها عن «أملنا في أن يحتفل الليبيون بحريتهم قريبا هم أيضا».

لقد تُوفي ستيفنز من أجل القيم الأميركية. وكان أقل ما يمكن لرومني أن يفعله هو تفادي تشويه تلك القيم. لقد كانت ميتة ستيفنز الفظيعة بمثابة توبيخ للسعي وراء الحصول على رأسمال سياسي حقير، ودعوة لتأمل أفضل ما في أميركا.

* خدمة «واشنطن بوست»