الإسلام رهينة..

TT

دعوني أجعل العبارة التي من حقها أن تكون في نهاية هذا المقال في مقدمته: «الإسلام مختطف، الإسلام رهينة، خطفته (القاعدة) ونظام الآيات وحزب الله والحوثيون، وخطفه المتشددون الذين اختصروا الإسلام في جسد ورقعة ثياب، وتركوا روح الإسلام، وخطفه العوام الذين يحرقون السفارات وينهبونها باسم الدفاع عن النبي الكريم».

«القاعدة» أخذت الإسلام وأدخلته معها في كهوف تورا بورا في أفغانستان وجبال وزيرستان في باكستان وجبال حطاط في اليمن، اعتقل الإسلام على يد عناصر من «القاعدة» ذهبوا به بعيدا إلى أعماق الصحراء الكبرى في أفريقيا وقفار الصومال، مقاطع الفيديو التي ترسلها «القاعدة» بين الحين والآخر لرهائنها المحتجزين في هذه الأماكن تظهر للمتأمل صورة رهينة أخرى موجودة دائما في خلفية هذه المقاطع من الفيديو، التي يظهر فيها كمّ كبير من الرهائن الغربيين والعرب وهم يناشدون دولهم العمل على إطلاق سراحهم بالاستجابة لمطالب «القاعدة». الرهينة القابع في الزاوية الخلفية لكل مقطع ترسله «القاعدة» هو الإسلام. الإسلام الذي أنتجت منه «القاعدة» نسخة حمراء، «لا تروى إلا بالدم»، على حد تعبيرهم.

ينسى مسجلو هذه الفيديوهات الذين يرسلونها إلى الفضائيات أو يضعونها على الـ«يوتيوب» أنهم بعرضهم أفلامهم هذه، إنما يعرضون الإسلام رهينة منزويا في الزوايا القصية من هذه الأفلام، يناشد المسلمين تحريره من خاطفيه. هذه المقاطع ينبغي الخروج للتظاهر ضدها، لأنها «أفلام مسيئة» للإسلام بكليته. معلوم أن «القاعدة» تريد بعملها هذا أن «تقذف الرعب» في قلوب الساسة الذين يشنون الحرب عليها، ولكنها تقذف الرعب حقا في قلوب ملايين البشر الذين هم في الأصل لا يتخذون موقفا معاديا ضد الإسلام، في وقت يوظف فيه هؤلاء الساسة تلك المقاطع لتبرير حروبهم على المسلمين.

وممن خطفوا الإسلام أحمدي نجاد ومعممو طهران. أحمدي نجاد يبشر بأن نظام بشار الأسد في سوريا لن يُهزم لأن «الإمام المهدي يقاتل بأياديه الخفية التي تتحكم في الكون إلى جانبه»، على الرغم من انتماء بشار إلى البعث الذي أصدر الخميني فتوى شهيرة بتكفيره، في تناقض عجيب لا يقوى على ابتكاره إلا نظام يدعو للوحدة الإسلامية وينشر الفتن الطائفية بين المسلمين. النسخة النجادية من الإسلام هي بالتأكيد غير النسخة الأصلية التي بذل الحسين دمه في سبيلها، لأن هذه النسخة تقف إلى جانب الظالم ضد الشعب المظلوم، ولكنها لعبة السياسة التي بموجبها أخذ أحمدي نجاد الإسلام بعيدا، ودخل به سرداب الإمام المهدي، الذي يتراءى لأوليائه في طهران ممن كشفت لهم الحجب وانسدلت عنهم الأستار.

وممن خطف الإسلام كذلك الحوثيون في اليمن. اعتقلوه في ليلة مظلمة وذهبوا به بعيدا إلى كهوف «صعدة»، ليتعايش مع المقولة المتخلقة «حصر الإمامة في البطنين». التي اختصرت الإسلام «الفكرة» في الإسلام «الأسرة»، واختصرت الأسرة إلى نصفها، واختصرت الأنصاف إلى أنصاف إلى أن أنتجت نسختها الخاصة من الإسلام التي تقضي بالتسليم بحقهم «في الإمامة لا ينازعهم فيها إلا (ظالم)»، حسب أقوال مراجعهم الكبار، في تفسير «سلالي» لدين جاء أصلا «رحمة للعالمين».

وممن خطفوا الإسلام أولئك «الحسينيون» الذين يتربعون على شاشات بعينها، ويدعون ليل نهار لـ«ثارات الحسين»، ويصرخون: «لبيك يا حسين»، من أجل الشحن الطائفي لا غير، لأن ضحايا الدعوة لثارات الحسين اليوم هم مئات آلاف العراقيين واليمنيين والسوريين. وقد ذكر بعض هؤلاء «الحسينيين» أن على أهل العراق «الانتقام من أهل الشام الأمويين أعداء الإمام علي»، في إشارة إلى وجوب دعم نظام بشار. هؤلاء المعممون خطفوا الإسلام كذلك، ذهبوا به بعيدا إلى بطون الكتب الصفراء وحبسوه في قارورة من الحبر القديم، وجعلوه رهينة أحقادهم التاريخية على أقوام من الأمويين والعباسيين شبعوا موتا. هم يفرقون الأمة باسم الحسين، مع علمهم بإجماع الأمة على حبه ومكانته.

الإسلام خطفته كذلك جموع من الذين انطلقوا لأغراضهم الخاصة يحرضون الشباب والمراهقين على مهاجمة سفارات غربية استنكرت بالفعل «الفيلم المسيء». نحن نختار المهمات السهلة لنريح ضمائرنا، ونزعم لأنفسنا في عملية من اللاوعي أننا قمنا بالواجب المستحق للنبي (صلى الله عليه وسلم) علينا بالدفاع عنه، في الوقت الذي لا يخلو كثير ممن تظاهروا ضد «الفيلم المسيء» من جرائم يندى لها جبين الإسلام ذاته، ومن هذه الجرائم نهب وسرقة أجهزة سفارات في عادة جاهلية جاء الإسلام لإبطالها. هؤلاء الغاضبون خطفوا الإسلام كذلك، لأنهم اختاروا الطريق الأسهل للدفاع عنه، وللتنفيس عن غضب مكبوت ومتراكم أصلا، ثم لا يلبثون أن يعودوا لممارسة أفعال منافية للإسلام، ومخالفة لأوامر النبي الذي خرجوا دفاعا عنه. هل سأل أحد هؤلاء الغاضبين نفسه: لو كان محمد (صلى الله عليه وسلم) حيا، ورأى «الفيلم المسيء»، هل كان سيفعل ما فعلوا هم؟! ولو فعل ما فعلوا، وحاشاه، أما كان سيكرس الصورة التي أراد «الفيلم المسيء» أن يروجها عنه؟!

وممن خطفوا الإسلام شيوخ كثيرون خطفوا الأضواء بفتاوى منفلتة، لا يُدرى لها أساس، تفرح بها كثير من وسائل الإعلام التي تروق لها الإثارة الإعلامية، هؤلاء الشيوخ يتبرعون بتقديم خدمة مجانية لمواقع معادية للإسلام على جانبي الأطلسي لتستشهد بأقوالهم في دعم طروحاتها السيئة عن الإسلام. هم يصرخون ليل نهار بأنه لا توجد في الإسلام طبقة رجال دين، ومع ذلك فإنهم يسيرون على خطى رجال الدين في العصور الوسطى المسيحية، الذين جعلوا الدين حرفة ووظيفة، وحشروه في قوالب من الروتين والجمود إلى أن ثار عليهم الناس وهدموا كنائسهم على رؤوسهم. الإسلام رهينة في يد أولائك «الظاهريين» الذين جعلوا الإسلام «مظهر جسد» عوضا عن أن يكون «مجلى روح»، وأراحوا أنفسهم بالأخذ بأسهل ما يمكن أن يربطهم بالدين، وهي المظاهر الحسية، وتركوا جوهر الدين القائم على التفكر والعقل والاجتهاد والبذل والعطاء وإنكار الذات.

وممن خطف الإسلام هؤلاء العوام الذين شوهوا صورته في وقت أرادوا فيه الدفاع عن صورة نبيه. ينتج أحد المدفوعين فيلما سينمائيا رديئا، ومسيئا لشخصية تاريخية، ونبي عظيم مثل محمد (صلى الله عليه وسلم)، ثم يذهب للاختباء، تاركا آثار فيلمه حرائق ودماء، وغضبا يغلي في عدد من العواصم. يتجاوز الأمر التظاهر إلى قتل وتهديد دبلوماسيين أدانوا «الفيلم المسيء»، مع ما لهم في الإسلام من حقوق الحماية والأمان. وهكذا في عرف التطرف مثير الفتنة ينجو ويدفع الثمن دبلوماسي حياته مصونة، حسب تعاليم الإسلام نفسه.

انكفأ الإسلام مع انكفاء المد النهضوي الحديث عند الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، حتى العلامة الأمين لملم أطرافه وانكفأ وراء زعيق الروزخانات، واللعانين والمطبرين الذين طبعوا الإسلام بطابع دمائهم المسكوبة حزنا على الحسين.

وقف أحد العارفين يوما على رأسه، فقيل له: لمَ تفعل ذلك؟ قال: كي أرى العالم المقلوب. هذا الشرق المقلوب ينبغي أن يعود ليقف على قدميه، وهذه الحفلة التنكرية السمجة والمرعبة ينبغي أن تنتهي، لأنها أخطر «فيلم مسيء» للرسول (صلى الله عليه وسلم) وللإسلام.