حقوق الجار

TT

حقيقة، لا أعلم سر اندهاش واستغراب بل وحتى صدمة البعض من تصريحات البابا بنديكتوس السادس عشر، بابا الكنيسة الكاثوليكية في روما، خلال زيارته للبنان وإلقائه للكلمة الرئيسية في القصر الجمهوري ببيروت. الرجل ألقى كلمة «رمادية» خالية من المعاني الواقعية، ولا رابط فيها لأحداث تدور على بعد أمتار من موقع إلقائه الكلمة في منطقة تعج بالتطورات وعالم مليء بالتغييرات.

الرجل مواقف، والمواقف فرص، والرجل جاء إلى لبنان البلد الذي ذاق الأمرين من ويلات أحداث جسام تسبب فيها بشكل رئيسي نظام الأسد في سوريا، وهي مسألة كان يعلمها جيدا سلفه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، لكن البابا بنديكتوس السادس عشر آثر إنكار توضيح حجم الكارثة في سوريا، وحجم إراقة الدماء المهول الذي يتحمله نظام أرعن ودموي ووحشي وموتور يدك مدن شعبه بالطائرات والدبابات والصواريخ، وفضل أن يطلق تصريحات يطالب فيها العالم بوقف التسلح في سوريا، وهي كلمة مبهمة لا تليق بقامة رجل يمثل مسيحيي العالم أو الطائفة الأكبر عددا منهم على أقل تقدير.

ولم يتطرق الرجل بشكل واضح وصريح للفيلم السينمائي القذر الذي صدر بحق رسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، والذي أصاب المسلمين بإهانة بالغة وتسبب في موجات عارمة من الغضب في بقاع مختلفة من العالم، وفاته أن يستغل الفرصة ليكون للموقف رجلا، ويتعامل مع الظرف بأسلوب يليق بزعيم روحي. ولكن للحقيقة أقول مجددا إن هذا الرجل جاء منذ لحظاته الأولى في منصبه المهم وهو يرسل بإشارات أقل ما يمكن وصفها بأنها إشارات سلبية وغير مساعدة على بناء جسور من الثقة والتواصل بين الأديان السماوية والحضارات المختلفة. والحقيقة أن مجيء «فكر» بنديكتوس السادس عشر صاحبه انقلاب أبيض هادئ وغامض في بكركي مقر الكرسي الرسولي لمرجعية الموارنة في لبنان، وهي التي تتبع للكنيسة الكاثوليكية في روما، فجاء بالبطريرك بشارة الراعي بدلا من نصر الله صفير.

وبشارة الراعي جاء بخطاب سياسي داعم لنظام الأسد، حيث حذر من سقوط المنطقة في بحار التطرف والأصولية في حال زوال نظام بشار الأسد، وهو موقف مغاير تماما لخطاب صفير المعروف، لكنه يطابق الموقف السياسي للمارونية السياسية «الشرسة» في لبنان والمتمثلة في ميشال عون وسليمان فرنجية، والتي باتت مدافعة عن النظام السوري أكثر من النظام السوري نفسه. ويُعذر تقلب مواقف ميشال عون السياسية وتغييره «لمبادئه» أكثر من تغييره لقمصانه، فهذه هي الضريبة السياسية التي قرر بكل طواعية ورضا أن يسددها لأجل الوصول إلى كرسي الحكم ورئاسة لبنان، وهو حلم يراوده منذ أمد بعيد ولأجله يتقلب في المواقف وفي المبادئ وكأنه في خلاط «مولينكس»..

لكن هذا غير مقبول من زعيم روحي كبير يجيء لزيارة منطقة تمر بمرحلة مفصلية في تاريخها وتحاول جاهدة النصرة لكرامة شعوبها ومنحهم حق الحرية وتحقيق الخلاص من الظلم والطغيان، ومع ذلك كله ومع وضوح سواد الظلمات التي تسبب فيها نظام الأسد في لبنان وسوريا وفلسطين لا يجرؤ البابا بنديكتوس أن يسمي الأمور بأسمائها.

عجبا لما حصل من تدهور في موقف الكنيسة المارونية في لبنان، فبعد أن كانت لها مواقف مهمة ضد المستعمر الفرنسي والمستعمر التركي والتهديد الناصري والبعثي، اليوم تدافع عن نظام أجمع العالم على فقدانه للأخلاق قبل الشرعية.

البابا بنديكتوس بحاجة لجرعة مكثفة من التأمل في مواقف سلفه يوحنا بولس الثاني وما فعل في مواجهة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وتحالفه القوي مع قوى الغرب لإسقاط «إمبراطورية الشر» ومنح أهلها حق حرية الأديان والعقيدة والكرامة والقضاء على قوى الظلام الجاثمة على صدور أهلها لعقود طويلة.

ليس السوريون أقل مكانة من أهل بولندا والمجر والتشيك ورومانيا وغيرهم، هم أيضا يستحقون ما استحقوا، ولكن تخاذل البعض عن شهادة الحق ومحاولة تجميل الباطل يكلفان المزيد من الأرواح، ويسفكان المزيد من الدماء، وهذه ذريعة لا ترتضيها شرائع السماوات ولا أخلاق القديسين ولا رجال أي دين.

جاء بنديكتوس إلى لبنان مبشرا وفرحا، ولم يراع حقوق الجار الجريح الحزين الباكي المكلوم. أوليست رعاية حقوق الجار إحدى الوصايا العشر؟ سؤال غير بريء!

[email protected]