لماذا تحول الكرد إلى الخندق السني المذهبي؟

TT

«لا يوجد حتى مسجد واحد للسنة في طهران، الأمر الذي يضطر معه السنة للتوجه إلى السفارتين السعودية والباكستانية لأداء فريضة الصلاة».

هذا ما قاله القيادي الكردي الإيراني اليساري عبد الله المهتدي عقب توقيع الحزبين الكرديين: الديمقراطي والثوري الكردستانيين على اتفاق تمخض عن تشكيل جبهة لمقاومة الحكومة الإيرانية، وذلك في اجتماع عقداه في كردستان العراق. وإذا علمنا أن طهران تضم الملايين من السنة الكرد والبلوش وغيرهما، آنذاك ندرك مدى انغماس طهران في العنصرية والمذهبية ضد السنة، بل وأتباع الديانات غير الإسلامية كالبهائيين والزرادشتيين.. إلخ. ويوحي قول المهتدي في تقديمه للشأن السني المضطهد على دونه من الشؤون الأخرى كالقومية والديمقراطية، بتحول واضح للحركة القومية الكردية الإيرانية من الخندق القومي التقليدي إلى الخندق السني الطائفي، الذي كان الكرد، ولا سيما في العراق، يتحاشون الوقوع فيه، مفضلين التمسك بالهوية القومية عليه.

ويوم كنت لاجئا في إيران عام 1974 وقفت على عداء مكشوف ودفين على الصعيد المجتمعي بين الكرد السنة والإيرانيين الشيعة، وأذكر ذات مرة سألني فيها كردي إيراني: «كيف يضطهدكم صدام حسين وهو سني مثلكم؟»، وعلمت أن الصراع المذهبي بين السنة والشيعة في إيران يتفوق على بقية الصراعات الأخرى. وفي عام 1991 اضطررت إلى اللجوء إلى إيران كرة أخرى، وإذا بالسؤال عينه يطرح علي، وبشكل أشد من ذي قبل، وأدركت أن الصراع المذهبي قد استفحل أكثر بين المكونين الاجتماعيين المذكورين، حتى إن الكرد في تخطئتهم للنظام الإيراني، لم يكونوا يميزون بين المحافظين والإصلاحيين، وأيقنت أن السخط الكردي على نظام الجمهورية الإسلامية فاق بكثير سخطهم على النظام الشاهنشاي البائد. وكان نمو سخطهم ناجما عن أسباب كثيرة منها قيام صادق خلخالي بحملات إعدام واسعة للكرد في مدن مهاباد ومريوان وبانه، وفي مدينة سنة (سنندج) وحدها مثلا نفذ حكم الإعدام بـ80 كرديا في يوم واحد. وهناك شهادات مصورة للإعدامات بحق الوطنيين الكرد في إيران، وهم مقيدون، معصوبي الأعين، ولقد فازت إحدى الصور بجائزة عالمية. ولم يكن خلخالي المتهم الوحيد بإيذاء الكرد؛ ففي عام 1980 أفتى الخميني بقتل زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني عبد الرحمن قاسملو والذي قتل فيما بعد في أوروبا تنفيذا لتلك الفتوى. ولقد وصف الخميني أعضاء حزب قاسملو بالشياطين وعناصر تعيث في الأرض فسادا، يجب القضاء عليها. وعلى نهجه وخلخالي سار الخامنئي المتهم بقتل قادة من الكرد، ويقال إنه يخشى من مغادرة إيران خوفا من أن يعتقل من قبل الإنتربول.

ولقد طال العداء الإيراني كرد العراق أيضا، فعلى أثر تعيين خط العرض الـ36 لحماية كرد العراق عام 1991 من النظام البعثي، ندد هاشمي رفسنجاني وكان آنذاك رئيسا للجمهورية في إيران بالتطور المذكور قائلا «لن ندع بأي شكل من الأشكال قيام إسرائيل ثانية في شمال العراق». وفيما بعد ترجمت أقوال رفسنجاني وغيره من القادة الإيرانيين إلى ممارسات تجلت في إقدام إيران على تجفيف نهر الوند ومن ثم نهر سيروان وشروعها في بناء سد على منابع نهر الزاب الصغير في منطقة سردشت الإيرانية، ناهيكم بسرقة منظمة للنفط في المناطق الكردية بشرق محافظة ديالي العراقية، وبالأخص آبار النفط في «نفطخانة» بقضاء خانقين، وسبق لمسؤولين كرد ببغداد أن أشاروا مؤخرا إلى ذلك وسط صمت الحكومة العراقية. كل ذلك لغرض إضعاف الكرد العراقيين في صراعهم مع حكومة المالكي.

واليوم.. فإن الكرد العراقيين على خطى كرد إيران باتجاه الخندق المذهبي السني، والذين لم يكن يدور بخلدهم في السابق، لكنهم وجدوا أنفسهم يحثون الخطى تلقائيا نحوه، فها هو التناقض يتسع باستمرار بينهم وبين الحكومة الشيعية ببغداد والذي يتجسد في صور عدة: الخلاف حول ميزانية كردستان والمناطق المتنازع عليها وملف النفط والغاز.. إلخ من الخلافات الآخذة بالازدياد، وجاءت خطبة رجل الدين الشيعي جلال الدين الصغير في جامع براثا، بمثابة إيذان لحرب مذهبية على الكرد العراقيين حين قال: «إن أول حرب سيخوضها المهدي ستكون مع الكرد، وإنه لن يقتل كرد سوريا أو تركيا وإيران، بل سيقاتل كرد العراق حصرا».

ولم يكن الكرد العراقيون يتوقعون أن يأتي يوم تتعرض فيه العلاقات الحسنة التي شدتهم إلى الشيعة طوال عقود إلى الانهيار، رغم الاتفاق الرباعي الهش بين الحزبين الكرديين الرئيسيين: الديمقراطي والوطني الكردستانيين مع الحزبين الشيعيين: الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى الذي (أي الاتفاق) ما زال باقيا ولكنه عاجز في الوقت عينه عن إصلاح ذات البين بين حكومتي المركز والإقليم في العراق، وأن يجدوا (الكرد العراقيون) أنفسهم ينجذبون رويدا رويدا إلى المعسكر السني الكبير لمواجهة الحكومات: الإيرانية والعراقية والسورية، ولقد قطع هذا الانجذاب على الصعيد الإقليمي شوطا كبيرا في تقارب الكرد مع الدول السنية المعادية لمحور: طهران، بغداد، دمشق، واللافت أن الانجذاب بدأ على الصعيد الداخلي العراق أيضا، والمتمثل في أكثر من تطور، مثل، إطلاق سراح السجناء العرب وجلهم من السنة من سجون إقليم كردستان العراق بأمر من رئيس الإقليم، في وقت لم يحسم فيه إقرار قانون العفو العام في العراق من قبل البرلمان العراقي لأسباب كثيرة منها اعتراض الشيعة على إطلاق سراح المتهمين بالإرهاب ومعظمهم أيضا من العرب السنة. فإعلان الحزب الإسلامي العراقي السني في ديالي عن مشاركة الكرد في إدارة شؤون محافظة ديالي، دع جانبا القول عن التقارب الذي حصل بين القائمتين: العربية السنية والكردية في محافظة نينوى.. إلخ من الخطوات الدالة على ظهور اصطفاف سني يجمع بين الكرد والعرب السنة في العراق. وبدخول كرد سوريا على خط المواجهة مع نظام بشار الأسد العلوي، يكون غالبية الكرد وجها لوجه مع النظم القائمة في إيران والعراق وسوريا.

عليه، وتأسيسا لما مر، إذا كانت الهوية القومية الكردية قد أخفقت في الماضي من جمع الكرد تحت مظلة واحدة ذات هوية قومية، يبدو أن الهوية المذهبية السنية قد أفلحت في جمعهم وتوحيد كلمتهم، ولا خوف من تبني الكرد لها، كونها السلاح الوحيد لمجابهة خصومهم في ظروف احتدام النزاع السني الشيعي بشكل لم يسبق له مثيل. وكما يقول هيغل إن «كل ما هو واقعي هو عقلاني»، وفي أجواء الصراع الطائفي الحاد في معظم البلدان الإسلامية التي تضم أنصار المذهبين السني والشيعي، فلا مناص للكرد إلا التخندق في الخندق السني، ولولا السياسة الشوفينية التركية إزاء الكرد في تركيا، لكان إقبال الكرد على هذا الخندق أوسع.

وتظل كل الحروب العنصرية المفروضة من الأمم المهيمنة على الأمم المستضعفة خطأ وجريمة، سواء أكانت قومية أو دينية أو مذهبية أو على أساس اللون والبشرة، لكنها عندما تصبح أمرا واقعا فلا مناص من ممارسة الحرب المضادة والتي هي عادلة ضدها، ولا ضير من أي هوية تقود إلى تحرير الإنسان والأمم.

* كاتب سياسي – العراق