الشتم وسيلة لكسب العيش

TT

أثنيت في أحد مقالاتي قبل سنوات على أحد السفراء العرب في لندن ثناء حارا من حيث يستحق ومن حيث لا يستحق. سألني زميلي أبو يعقوب قال: كم دفع لك هذا السفير؟ قلت: أعوذ بالله. لم أتسلم منه ولا حتى كلمة شكر. واصلت كلامي فقلت للزميل: اسمع، بعض المسؤولين العرب لا يدفعون لمن يمدحهم. يدفعون لمن يشتمهم. فالمداحون كثروا. عشرة بقرش. ولكن الشتم يحتاج لموهبة وقلم مرهف وإلمام جيد بالفضائح والسرقات. وهذا لا يتيسر لكل واحد. يدفعون لمن يشتمهم ليسدوا فمه ويقمعوا صوته.

وهذا ما يذكرني بأحد كبار الصحافيين العرب من محترفي الشتم. ذهب في زيارة لإحدى الدول العربية وعاد محملا بشنطة مليئة بالدولارات. مرت أشهر وعاد لحضور مؤتمر في تلك الدولة. احتفوا به ثم سألوه: يا أستاذ، دفعنا لك خمسين ألف دولار ولم تكتب سطرا واحدا تثني به على سياستنا ومنجزاتنا. قال: آسف! هذا اللي دفعتوه لي كان ثمن سكوتي حتى لا أكتب عنكم شيئا. إذا كان المطلوب أن أمدحكم أيضا فهذا يتطلب مبلغا إضافيا.

يبدو لي في الواقع أن العولمة قد شملت مؤخرا تجارة الشتم أيضا، فقد وجدت أن كثيرا من الناس من سائر الأمم أخذوا يعتمدون على الشتم في كسب العيش. هناك في زاوية الخطباء في هايد بارك بلندن، رجل أفريقي أسود يعتلي المنصة عصر كل يوم أحد ويطلق لسانه في شتم الحكومة الإنجليزية وينال من شرف النساء الإنجليزيات. لم أر خطيبا في هذه الزاوية يتزاحم الناس لسماعه كهذا الخطيب. يقصده السياح والأجانب بصورة خاصة ليلمسوا الديمقراطية البريطانية في العمل ويستمعوا لكل قفشاته. وقد استطاع أن يحصل مؤخرا على راتب من إدارة السياحة لعمله في تشجيع السياحة البريطانية واجتذاب السياح من سائر المعمورة. وفي نهاية كل شهر يقدم فاتورته عما تناوله من طعام وشراب وفيتامينات للقيام بمهمة الشتم. وكلما اضطره الزكام أو المرض للانقطاع عن زاوية الخطباء، كان يقدم تقريرا طبيا يبين سبب انقطاعه عن شتم الحكومة والشعب الإنجليزي.

أنا ممن يجيدون الشتم ولكنني أيضا ممن يعاكسهم الحظ. فحتى في الشتم يعمل الحظ والنصيب ما يعمله في الزواج. لم أتسلم فلسا عن كل الشتائم التي كلتها للحكومات والمسؤولين. جاءني زميلي الرسام الكاريكاتيري عبد الكريم. قال: يا خالد، تعال معي في مشروع لإصدار مجلة ساخرة نشتم بها المسؤولين ونكسب لنا قرشين ثلاثة. «لا يا عمي لا. ماكو فايدة. أنا قضيت كل حياتي أشتم وما كسبت غير الملامة والاضطهاد. صادروا حتى جواز سفري. ماكو فايدة مني. شوف لك واحد غيري».

«لا يا أبو نايل لا. أنت ما رتبت شتايمك بشكل مفيد. العيب مش في الحكومات. العيب فيك أنت. تشتم بالغمز والرمز. هذا ما ينفع. إذا تشتم لازم تشتم دوغري ووجها بوجه وتذكر فضايحهم».

«ما ينفعش.. شوف لك واحد غيري!».