برامج صندوق النقد بين الواقع والتصور الخاطئ

TT

خلال الشهور القليلة الماضية، طلب كل من الأردن والمغرب واليمن الحصول على دعم مالي من صندوق النقد الدولي، لمساندة برامجها الوطنية للإصلاح الاقتصادي. وستبدأ مصر قريبا محادثات مع الصندوق للحصول على قرض لدعم استقرارها الاقتصادي وجدول أعمالها المعني بالنمو.

وتنظر الحكومات والأسواق المالية إلى الانخراط العميق للصندوق مع هذه البلدان باعتباره تصويتا بالثقة باقتصاداتها وهامشا للأمان المالي المطلوب بشدة. غير أن رد الفعل الشعبي يتباين في هذا الصدد. فبعض المعلقين يتساءلون عما إذا كانت هذه الأموال سيتم إنفاقها في الأوجه السليمة أم أنها ستكون مجرد إضافة جديدة إلى المديونية الوطنية، بينما يشعر آخرون بالقلق إزاء الشروط المصاحبة لهذه القروض وما إذا كانت ستتسبب في معاناة المواطن العادي.

وقد تنبع مثل هذه المخاوف من رغبة مشروعة في التأكد من أن السياسات الاقتصادية الوطنية تحركها المصالح الوطنية وتساهم في تحسين حياة الشعوب. وتوضح هذه المخاوف أيضا أنه يتعين علينا، نحن في صندوق النقد الدولي، أن نقوم بدور أفضل في تفسير السبب الذي يجعل دعم الصندوق عاملا مساهما في تخفيف أثر معالجة الصدمات الاقتصادية، مع إلقاء الضوء على التغييرات التي حدثت في الصندوق نفسه مع مرور الوقت. وأود في هذا المقال أن أتناول خمسة من التصورات الخاطئة الشائعة عن الصندوق.

1) المفهوم الخاطئ الأول هو أن برامج الصندوق تفرض إجراءات تقشفية وتتسبب في معاناة بلا داع:

تلجأ البلدان عموما إلى الصندوق للحصول على التمويل اللازم عندما تمر بصعوبات اقتصادية. وقد تنشأ هذه الصعوبات عن صدمة خارجية - كأن تطرأ زيادة حادة في أسعار الطاقة أو غيرها من الواردات الرئيسية، أو تؤدي السياسات الاقتصادية المحلية إلى تزايد الاختلالات ومواطن الضعف الاقتصادية - كأن يصل عجز الموازنة إلى مستوى لا يمكن الاستمرار في تحمله فيتم تمويله بطبع المزيد من العملة الوطنية، مما يسبب هبوطا حادا في احتياطيات النقد الأجنبي.

وبالتالي، تقوم الحكومات بالتعامل مع هذه الصدمات والاختلالات باتخاذ قرارات مؤلمة، مثل تخفيض الإنفاق الحكومي أو رفع أسعار الفائدة أو اتباع سياسات مرتبطة بتعديل أسعار صرف العملات الأجنبية. وهنا، يتمثل دور التمويل المقدم من الصندوق في مساعدة البلدان على تخفيف وطأة هذه الإجراءات التصحيحية على المواطن عن طريق توفير هامش أمان من الدعم ومزيد من الوقت لمعالجة المشكلة الأساسية. ففي غياب التمويل من الصندوق، يمكن أن تصبح عملية التصحيح أكثر صعوبة. فعلى سبيل المثال، إذا أعرض المستثمرون عن شراء السندات الحكومية التي يصدرها البلد العضو، تصبح الحكومة أمام خيارات صعبة وتجد نفسها مضطرة لتخفيض مبلغ التمويل المطلوب؛ إما عن طريق تخفيض الإنفاق أو زيادة الإيرادات أو تمويل العجز من خلال طبع النقود. وتصبح عملية «شد الأحزمة» أكثر حدة بالمقارنة مع عملية الحصول على تمويل من الصندوق، الذي من شأنه تسهيل القيام بتصحيح اقتصادي أكثر تدرجا ومدروسا.

أما في حالة غياب التمويل من الصندوق، فالحصيلة هي التضخم الذي يلحق الضرر بالفقراء أكثر من أي فئة أخرى. ولا يزال التصحيح مقترنا في أذهان الكثيرين بفترة من التقشف، مما يجعل البعض يربط خطئا بين الصندوق وفرض معاناة لا داعي لها، ويمكن تشبيه ذلك بإلقاء اللوم على رجل الإطفاء لأنه أخمد الحريق!

ومع ذلك، فإن ما يستطيع الصندوق القيام به أيضا هو الإشارة إلى تجارب أعضائه البالغ عددهم 188 بلدا في إجراء التصحيح الاقتصادي الكلي على نحو يوفر الحماية للفقراء وفئات المجتمع محدودة الدخل. فعلى سبيل المثال، تم إعداد برامج للكثير من البلدان منخفضة الدخل بحيث تتضمن حدا أدنى يستهدف الإنفاق الاجتماعي وغيره من المصروفات ذات الأولوية للمواطن كالتعليم والصحة. وقد أوضحت دراسة أجريت مؤخرا على 140 بلدا في الفترة من 1985 - 2009، أن البرامج المدعومة من قبل الصندوق غالبا ما يكون تأثيرها ملموسا وإيجابيا على الإنفاق الاجتماعي، ولا سيما في مجالي الصحة والتعليم.

2) التصور الخاطئ الثاني هو أن الصندوق يفرض شروطا لا تلائم البلدان المقترضة:

من أهم الدروس التي يمكن استخلاصها في مجال التنمية أنه لا توجد صيغة واحدة تصلح للجميع! فكل بلد عليه أن يحدد مساره الخاص للتعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية، حتى وإن كانت هناك دروس مهمة من تجارب البلدان الأخرى، عادة ما تنجح من خلالها السياسات الاقتصادية في تحقيق الهدف المطلوب. وتنعكس هذه الحقيقة البسيطة أيضا في تصميم البلدان لبرامج يدعمها الصندوق، التي تتضمن درجة كبيرة من المرونة وتأخذ بعين الاعتبار الظروف والأوضاع الاجتماعية في كل بلد. ومن الانعكاسات الفعلية لهذه الحقيقة خفض عدد المحددات المصاحبة للبرامج التي يدعمها الصندوق من متوسط تسعة محددات في الفترة من 2001 - 2004 إلى ستة محددات في الفترة من 2008 - 2009. كذلك انخفض عدد البرامج المقترنة بخمسة عشر شرطا أو أكثر لكل عملية مراجعة خلال الفترة من 2008 - 2009 إلى الصفر.

وهناك نقطة مهمة أخرى في هذا الخصوص، وهي أن البرامج التي توضع محليا وترجع ملكيتها الكاملة للسلطات الوطنية هي التي غالبا ما يكون تنفيذها أكثر فاعلية من أي برامج أخرى. إن فرض سياسات من الخارج لا يقدَّر له النجاح على وجه العموم، ولذلك يصر الصندوق على أن تتولى السلطات الوطنية وضع البرامج التي يقدم الصندوق الدعم لها، وأن تقوم بنشرها للاطلاع العام قدر الإمكان في البلد المعني، حتى تحظى بالتأييد المطلوب على نطاق واسع. ونحن نقوم أيضا بنشر ما يعده خبراؤنا من تقارير بشأن هذه البرامج فور موافقة المجلس التنفيذي عليها. ويمكن الاطلاع على التقارير المنشورة في الموقع الإلكتروني التالي: www.imf.org

3) المفهوم الخاطئ الثالث يتمثل بالقول إن تمويل الصندوق يساعد الحكومات على الاحتفاظ بسياسات غير قابلة للاستمرار:

أود أن أوضح هنا الصندوق لن يقدم التمويل إذا اتخذت السياسات الاقتصادية الحكومية مسارا خاطئا، حيث تُصْرَف القروض على أقساط يرتبط كل منها بتطبيق إجراءات محددة. والهدف من ذلك هو التأكد من أن تنفيذ البرنامج يحقق تقدما، والحد من المخاطر التي يتحملها الصندوق؛ أي المخاطر التي يتعرض لها مجموع الموارد المقدمة من البلدان الأعضاء لاستخدام الصندوق.

وتتيح المراجعات المنتظمة للبرامج إطارا يستطيع من خلاله المجلس التنفيذي إجراء تقييم دوري لما إذا كان البرنامج المدعم من الصندوق يسير في طريقه المحدد وما إذا كان من الضروري إجراء تعديلات عليه حتى يحقق أهدافه. وتجمع هذه المراجعات بين تقييم المنجزات (من حيث تحقيق أهداف البرنامج طبقا للجدول الزمني المحدد) والتقييم الاستشرافي (من حيث مدى احتياج البرنامج للتعديل في ضوء المستجدات). ولا تصرف الموارد المتفق عليها في إطار البرنامج المدعم من الصندوق إلا بعد صدور الموافقة - أي استكمال المراجعات المقررة - من جانب المجلس التنفيذي للصندوق.

4) التصور الخاطئ الرابع هو أن الصندوق لم يستفد من دروس الربيع العربي:

من أهم دروس الربيع العربي هو أن استمرارية النمو الاقتصادي تستوجب توفير فرص عمل جديدة، واشتراك الجميع في جني الثمار، وتوخي المزيد من الإنصاف في توزيع الفرص الاقتصادية على نطاق أوسع من السكان. ومراعاة لهذا الهدف، أصبحت البرامج التي يدعمها الصندوق أكثر تركيزا على تشجيع النمو بطريقة تعود بالنفع على كل شرائح السكان، وعلى الحد من الفقر والبطالة، وخاصة بين الشباب.

فعلى سبيل المثال، نحن نحث الحكومات على إفساح مجال للنفقات ذات الأولوية، مثل الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والصحة، عن طريق التحكم في الإنفاق غير الموجه والمُهدِر للموارد. ومن بين السبل الممكنة لتحقيق ذلك، استخدام شبكات الأمان الاجتماعي التي تتوخى مزيدا من الدقة في استهداف المستحقين، بحيث تكون بديلا لنظام الدعم المعمم. وتجدر الإشارة إلى أن الدعم المعمم لا يفيد الفقراء في الغالب، بل لقد تبين لنا أن ما يصل إلى الفقراء في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو 20 في المائة فقط من دعم الغذاء والوقود، بينما يستفيد غير المحتاجين إليه بالنسبة المتبقية البالغة 80 في المائة.

5) أما التصور الخاطئ الخامس، فهو أن كل ما تفعله قروض الصندوق هو أنها تضيف إلى المديونية القائمة:

من حيث المبدأ، كل القروض - بما فيها قروض الصندوق - تضيف إلى المديونية القائمة، نظرا لكونها تتطلب السداد. غير أن السؤال الأهم هو ما إذا كان القرض يستخدم على نحو يؤدي إلى تحسين ظروف البلدان المقترضة ويتيح لها تحقيق مكاسب اقتصادية حتى بعد سداد القرض.

أنوه إلى أن قروض الصندوق تساعد البلدان على التعامل مع مشكلات السيولة الآنية - وهو ما يحدث مثلا حين تنقطع سبل الاقتراض من الأسواق المالية أمام هذه البلدان، أو حين تقتصر الفرص المتاحة لها على قروض بأسعار شديدة الارتفاع. ومن خلال السيولة التي يقدمها الصندوق، تستطيع هذه البلدان بالفعل أن تتجنب عملية تصحيح اقتصادي أوسع نطاقا وأشد ضررا. وبالإضافة إلى ذلك، يمثل الاقتراض من الصندوق خيارا رشيدا إلى حد كبير، نظرا لانخفاض سعر الفائدة الذي يبلغ حاليا نحو 1.5 في المائة فقط على قروض الصندوق، وهو سعر أقل بكثير مما يتعين على الحكومات أن تدفعه في العادة مقابل الاقتراض من الأسواق المالية المحلية.

والواقع أن مواصلة الاقتراض من الأسواق المحلية بأسعار مفرطة في الارتفاع يمكن أن يساهم بالفعل في إحداث تضخم كبير في المديونية القومية. وجدير بالذكر أيضا أن قروض الصندوق - كشكل من أشكال الاقتراض الخارجي - لها ميزة إضافية تتمثل في إتاحة فرصة أكبر أمام البنوك لكي تقدم القروض للقطاع الخاص، ولا سيما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل عنصرا أساسيا في توفير المزيد من فرص العمل وتشجيع النمو الذي يعود بالنفع على كل شرائح السكان.

* مدير منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا في صندوق النقد الدولي