لغز الإعلام المسيء لنبي الإسلام

TT

المسيرة طويلة. الهدف تقديم الإسلام كدين عربي مضاد للسلام. وللتقدم الحضاري. وغير متسامح أو متعايش، مع الثقافات والأديان الأخرى. مع صعود الإسلام السياسي، وصدام الإسلام التكفيري و«الجهادي» مع المجتمعات الإسلامية والغربية، تم اللجوء في أميركا وأوروبا، إلى الإعلام الجديد والتقليدي، كوسيلة وأداة، لتشويه الصورة الإنسانية للدين.

ثم تحول التركيز الإعلامي من تفسير وتأويل القرآن الكريم. إلى التركيز على شخص نبي الإسلام ، بالتشهير. والتشويه. وإلحاق الأذى بحياته الشخصية. ورسالته.

وهكذا. نبشت كتب الاستشراق القديم. بكل ما فيها من روايات مشكوك في صحتها عن العقيدة. وعن نبيها. وأشخاصها. وتاريخها. وفي نهاية ثمانينات القرن الماضي، لجأت دور نشر كبرى وصغرى، إلى إغراء روائيين. ومفكرين. وعلماء اجتماع. وسياسة، للتأليف والكتابة سلبا عن الإسلام.

في هذا النطاق. ظهر الروائي المسلم المغمور سلمان رشدي المهاجر من الهند. والمبهور بالحضارة الغربية، لوضع تراتيله الشيطانية عن حياة الرسول العربي الكبير. كما تم الترويج الإعلامي لنظريات صموئيل هانتنغتون، وبرنارد لويس، عن الصدام بين الحضارات والثقافات، وعن الصدام المسلح «المحتم» بين الغرب والإسلام. فقد حل الإسلام محل الماركسية المهزومة كالعدو رقم واحد، للحرية. والديمقراطية. والحضارة والثقافة الغربية!

ثم انحدرت الحملة الإعلامية الدعائية من مستوى الفكر والأدب، إلى مستوى الغوغائية المثيرة، والبذاءة الرخيصة، في تناول شخصية الرسول الكريم في الإعلام الجديد: السينما. التلفيزيون. الإنترنت. مواقع التواصل الاجتماعي. صور الكاريكاتير التي تداولتها الصحافة غير الرصينة في أوروبا. ووصلت منتهى بذاءتها في الفيديو الأميركي.

لماذا انحدر الهدف، إلى التركيز على شخص نبي الإسلام؟! لأن الدراسة لنفسية الجماهير تبرهن على أن تناول الشخص أكثر إثارة، واستفزازا لشعور 1.5 مليار مسلم، من تناول الاعتقاد الديني البالغ التعقيد. اللغز بات مفهوما: جدلية الفكر تثير اهتمام المثقفين. وفقهاء الدين. رد فعلهم يظل محصورا في نطاق علمي محدود. هادئ. ومنضبط. أما ترويج ترهات وأكاذيب عن الشخص. عن النبي. فهو كاف لإهانة شارع عربي وإسلامي عريض. باستفزازه. بإيلامه. بجرح كبريائه. بتحدي إيمانه المغري العميق، لدفعه إلى ارتكاب أعمال عنف دموية في مجتمعه.

هنا يتحقق هدف المخططين. فهم يزعمون أنهم برهنوا للعالم على أن الإسلام «دين عنف»، وأن نبيه رسول عنيف. يقول سمسار التأمين ستيفن كلين (klein) الذي ساهم في كتابة سيناريو الفيلم البذيء: «لقد وصلنا إلى الناس الذين أردنا الوصول إليهم.. فإذا ما قلت كلاما محطا بالإسلام، فهم يعمدون فورا إلى العنف».

أود هنا أن أفصل الهجوم المدمر على القنصلية الأميركية في بنغازي، عن تداعيات الفيلم الأميركي، لأعتبره فصلا من فصول الحرب المستعرة بين إدارة باراك أوباما، والإسلام الحربي المتمثل بـ«القاعدة» وأذرعها الأخطبوطية غير المرتبطة بها تنظيميا. الهجوم عملية انتقام من طائرة النحلة (درون) التي قتلت عدا كبيرا من زعماء «القاعدة»، من دون أن تأبه بالأذى الذي ألحقته بسمعة أميركا. فقد فتكت أيضا بعرب ومسلمين أبرياء.

أملك من الجرأة لأقول إن إدارة أوباما خسرت في مقتل سفيرها في ليبيا واحدا من القلة القليلة من «العروبيين» الباقين في وزارة الخارجية الأميركية. كان كريستوفر ستيفنسن يجيد العربية. ويفهم العقلية العربية. وعمل طويلا في عواصم المشرق العربي. ولعب دورا كبيرا في إقناع أوباما وهيلاري بالتدخل الجوي في ليبيا، لإنقاذ بنغازي من مجزرة هائلة، كان القذافي على وشك ارتكابها.

وإذا كانت حقا السلفية «القاعدية» هي التي قامت بالهجوم على القنصلية، فهي لا شك ألحقت أذى بالغا بالسلفيين القلة الذين يقاتلون مع الثوار السوريين. ومنحت نظام بشار وروسيا بوتين، الفرصة ليقولا للغرب وللعالم ساخرين وشامتين: هذه هي نتائج التعاون مع الإسلام «الجهادي».

عشت في الغرب ما يكفي من عمر وسنين، لأكتشف أن الديمقراطية تراقب. تعرف. لكنها تهمل. وتمهل. لا تتحرك ضد الإساءة إلى قيمها وقوانينها، إلا عندما ينزل بها الخارجون على القانون مصيبة. أو كارثة. أجد اليوم أن الأجهزة الأمنية ومنظمات حقوق الإنسان الأميركية كانت تعرف نشاطات ستيفن كلين وصديقه. القبطي المهاجر نقولا باسيلي نقولا (55 سنة) الذي أنتج الفيلم البذيء.

ستيفن قاتل في فيتنام. ثم نظم حملة بذاءات وأكاذيب ضد الإسلام ونبيه، منذ أن أصيب ابنه المقاتل في العراق بجروح معيقة في الفلوجة. نقولا باسيلي نقولا الذي تسبب بكارثة لأميركا في العالم العربي والإسلامي معروف بتحريضه أقباط المهجر ضد وطنهم مصر، على درجة تبرؤ الأبرشية القبطية في كاليفورنيا منه: «إننا ندين هذا الفيلم. تعاليمنا المسيحية تفرض علينا احترام معتقدات الآخرين».

يبقى أن تبذل الكنيسة القبطية المصرية جهدا أكبر في ضبط أقباط المهجر. لتبارك من يبارك مصر. ولتعاقب من يثأر من مصر. ويبقى أن يحقق نظام الإسلام الإخواني وعوده بمساواة الأقباط مع المسلمين في الحقوق والواجبات، وحمايتهم من موجات التعصب الديني التي تغطي على سماحة إسلام مصر.

إشكالية العلاقة الوثيقة والطيبة، بين الإسلام السني العربي والكنيسة الكاثوليكي الفاتيكانية، تكمن في أن الباباوات يصلون من أجل العربي، أكثر مما يعملون لرفع الظلم عنهم. الباباوات يعتذرون باستمرار لليهودية العالمية التي تبالغ، باستمرار، في الرواية الإعلامية فضائح الجنس التي قيل غنها تحصل في الأبرشيات الكنسية المنتشرة في العالم.

أذكر أني دعوت البابا الراحل يحنا بولص الثاني، على صفحات «الشرق الأوسط» إلى الاعتذار عن الحروب الصليبية، بمناسبة زيارته لسوريا. عاتبني السفير السوري في باريس إلياس نجمة قائلا: «أنت خربطت الدنيا في الشام». ثم عرفت أن المرجعية الدينية السورية تشجعت. وحالت دون سماح النظام للبابا الرافض للاعتذار، بتحقيق رغبته في تلاوة تراتيل وصولات، في مسجد بني أمية.

كم كنت أتمنى أن يعتذر البابا بنديكتوس الزائر للبنان، عن محاضراته التي ألقاها قبل تنصيبه وبعده، عن تزمت الإسلام وعنفه. إذا كان من عذر لراهب الفكر الكاثوليكي، فهو خوفه الدائم من صعود الإسلام «الجهادي» وانتشاره في أوروبا.

والحق أن الإسلام الأوروبي، كما الإسلام الشرقي، بحاجة إلى إعمال مقارنة الإيمان بالعقل. والعاطفة بالمنطق. بالرغبة في التنمية. في تقنية الإبداع العلمي، تماما كما فعلت ألمانيا. واليابان. والصين. كي يتجنب إسلام الشارع العربي الوقوع في الفخ الذي نصبه الفيلم البذيء، ليبرهن ممولوه ومنتجوه «المجهولون/ المعروفون»، عن أن الإسلام دين عنف. ودم.

الرئيس أوباما لم يكن بطل الفيلم. لم ينتج. ويخرج الفيلم، ليعاقب إسلام الشارع العاطفي أميركا عليه، بقتل سفرائها. وتدمير سفاراتها. ومدارسها. وجامعاتها في العالم العربي. لكن هل تسمح الديمقراطية الأميركية، باستخدام حرية التعبير والرأي، لإنتاج فيلم عن الإسلام الرسالي الذي بشر به النبي العربي العالم، أم أن هذه الحرية هي وقف على الأميركيين والإسرائيليين الذين يسيئون استخدامها؟