شماتة الروس بورطة الأميركان

TT

لعل السيد فلاديمير بوتين، قيصر روسيا، بنسختها الجمهورية الاتحادية، يفرك يديه الآن شماتة بما يجري لأميركا أوباما، من قبل جموع الغاضبين المسلمين، في سفاراتها، خصوصا في دول الربيع العربي، على خلفية الفيلم المسيء للإسلام، الذي نفذه أناس يقطنون أميركا، رغم براءة أميركا الرسمية العلنية.

طبعا، الدبلوماسية تقتضي إخفاء مثل هذه الشماتة، ولكن المتأمل للموقف الروسي لن يفاجأ بطبيعة موقفهم الرافض من البداية «للهرولة» الأميركية في مناصرة الجموح الشعبي لإسقاط الأنظمة القائمة، بل وشبه التحالف مع حركة الإخوان المسلمين، وتفضيل هذه الجماعة على غيرها، وتوفير غطاء شرعي دولي لها تحت بيرق الديمقراطية والربيع العربي، ليس الغطاء الشرعي فقط، بل والجهد العسكري الذي تجلى في الصواريخ والطائرات الأميركية التي سرعت رحيل نظام «الرجل الأخضر» معمر القذافي.

الأميركان في حالة ذهول بسبب هذا العداء الفاقع لهم في الشارع العربي. فالسيدة هيلاري كلينتون، وهي التي كانت حادة وملحة في الضغط على مبارك بالرحيل من مصر، انتفضت بعد المصير المأساوي الذي لقيه السفير الأميركي في بنغازي، حيث قتل الرجل شر قتلة، رغم أنه كان شديد التعاطف والحماسة للربيع العربي، وهو أيضا دبج فيه القصائد، وللقارئ الكريم أن يشاهد شريطه المؤثر فعلا على موقع «يوتيوب». هيلاري صرخت: لم يحدث الربيع العربي من أجل أن يحكم الغوغاء!

طيلة العام الماضي وهذه السنة أيضا، كان الحديث، في هذه الصحيفة، من قلة قليلة، عن خطورة الركض الأميركي الانفعالي الساذج خلف هذه الحركات، ولم يكن الغرض رفض وجود الدور الأميركي، بل وجوده في المنطقة، ولكن للضغط الإصلاحي، دون هدم المعبد على من فيه، والتبني السطحي لمقولات شبان الربيع العربي، أو بعض مثقفي الإخوان «الناعمين». ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود؟!

بعض المثقفين العرب تنبه مؤخرا إلى خطورة المقامرة بتمكين التيارات الأصولية من رقاب البلاد والعباد، وخطورة تصديق الدعايات المناورة منهم حول الحكم المدني والديمقراطية.

من هؤلاء، مفكر الاجتماع السياسي الدكتور سعد الدين إبراهيم، وهو الذي كان من عرابي التواصل الأميركي - الإخواني في مصر، وقد رجع عن رأيه في قابلية «الإخوان» للحكم المدني الديمقراطي، وهو الآن من أشد مناهضيهم، ولكن أهمية ما يقوله إبراهيم حاليا، هي في كونه شاهدا على بعض الكواليس الخفية لما سمي الربيع العربي، من الزاوية الأميركية طبعا.

في مقابلة تلفزيونية معه مؤخرا، في برنامج (هنا القاهرة) للإعلامي المصري، إبراهيم عيسى، على قناة (القاهرة والناس)، تحدث الدكتور سعد الدين عن مشاهداته لكيفية فهم إدارة أوباما لما جرى في مصر، خصوصا في ميدان التحرير، وقال إن الإدارة الأميركية كانت تتعامل مع الحدث برومانسية عالية، واستخدم بالضبط وصف (رومانسية) هذا، وحدد شخص الرئيس أوباما، وقال سعد الدين إنه كان جالسا في البيت الأبيض مع بعض المستشارين، أثناء المظاهرات الأولى، وكان الرئيس أوباما يخرج إليهم كل حين وهو مفعم بالحماسة ليشاهد ثورة ميدان التحرير.. وبهذه الروحية الرومانسية الخلاصية، تعاملت الإدارة الأميركية الأوبامية مع منطقة بالغة التعقيد ومركبة المشكلات، لتقول هيلاري لاحقا: إنها مشكلة بشرية معقدة!

بالعودة إلى القيصر الروسي، فلاديمير بوتين, فمن المتوقع أن يسوق الرجل موقفه بطريقة منطقية تخفي حقيقة الأحقاد الروسية المريرة تجاه الغرب، خصوصا أميركا، وهي أحقاد سياسية في الصراع على هذه المنطقة والوصول للمياه الدافئة.

في مقابلة أجرتها معه محطة تلفزيون (آر تي) الروسية وبثت في السادس من الشهر الحالي، سبتمبر (أيلول)، رفض بوتين الانتقادات الغربية الموجهة إلى موسكو في شأن قضايا عدة، وعلى رأسها قضية الصراع في سوريا.

وردا على سؤال حول ما إذا كانت موسكو ستعيد التفكير في موقفها من سوريا، بعد أن استخدمت حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات في مجلس الأمن لتعطيل مشاريع قرارات يدعمها الغرب للضغط على سوريا، قال بوتين متسائلا: «ولماذا ينبغي لروسيا فقط أن تعيد تقييم موقفها؟ ربما يتعين على شركائنا في العملية التفاوضية إعادة تقييم مواقفهم».

ولمَّح بوتين، كما في نص خبر «بي بي سي» العربية، إلى أن الولايات المتحدة «تنتظر من المتشددين أن يساعدوا في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد». قائلا إن تلك الدول «ستندم على ذلك».

وقارن بوتين الوضع الراهن في سوريا بما حدث في أفغانستان حين أيدت الولايات المتحدة «الجهاديين» الذين حاربوا القوات السوفياتية في تلك البلاد خلال الحرب الباردة.

لاحظوا كيف استحضر بوتين ثأر روسيا القديم، حتى وهي شيوعية، مع الأميركان في أفغانستان، وكأنه يقول لهم: ذوقوا ما ذقناه قبل سنين. أو سنذيقكم مما ذقناه.

ولو شاء الإنسان أن يتمادى مع خياله، خصوصا أن الرئيس بوتين رجل استخبارات من الطراز الأول، لربما خطر له أن يكون شيء مما يجري من فوضى هنا وهناك ليس كله عفويا، أو على الأقل يحكمه منطق: ما أمرت بها ولم تسؤني!

إن الحلم الروسي بالوصول للمياه قديم، وقد اصطدم مرة، 1855م، في عصر القيصر نيقولا الأول، بفرنسا الإمبراطورية والدولة العثمانية وببريطانيا العظمى.

واصطدم مرة أخرى 1878م، في عهد القيصر ألكسندر الثاني ببريطانيا العظمى التي لم يعجبها هزيمة الروس للعثمانيين وتهديد للمضايق المائية، وأجبرتها على توقيع مؤتمر برلين الذي حد من النفوذ الروسي.

وفي العصور الحديثة، كانت هزيمة الاتحاد السوفياتي، بدعم أميركي صريح للمجاهدين، وهو الذي أشار إليه بوتين في حديثه الآنف، وبحائط صد عربي، سعودي في مقدمته.

في عهد السادات، تم ضرب النفوذ الروسي «السوفياتي» في مصر، وتحول الرئيس السادات ناحية أميركا، فكانت ضربة موجعة للطموحات الروسية، ثم ضرب النفوذ الروسي في جنوب الجزيرة العربية مع انهيار اليمن الجنوبي الشيوعي، وفقد الروس الكثير من قوتهم في القرن الأفريقي أيضا.

في اللحظة الحالية، لم يبق من وجود مادي للروس في المنطقة إلا في سوريا، وتحديدا في ميناء طرطوس البحري الهام.

ما سبق، لا يلغي النظر إلى عوامل أخرى تحكم السياسة الروسية تجاه منطقتنا، منها أن روسيا ترى أنها تمارس حربا متقدمة وقائية ضد عدوى انتقال التمرد والاحتجاج المدني إلى داخل روسيا.

المراد قوله إن الصراع الرهيب بين روسيا الكبرى والغرب، وفي مقدمه أميركا، على منطقتنا، للأسف يبدو فيه أن قدرات الإدارة الأوبامية وإدراكها فيه لطبيعة المنطقة أضعف من الموقع الروسي.

الغريب والمثير للعجب والدهشة، أن تبدو مواقف أميركا الأوبامية صلبة وحادة وسريعة تجاه إزالة حسني مبارك وبن علي والقذافي وعلي صالح، وفي نفس الوقت رخوة وعائمة وضبابية، بل وجبانة، من إزالة بشار الأسد من سوريا، رغم أن سوريا هي الساحة الكبرى للمعركة، وهي الثورة الحقيقية الطالبة للحرية منذ نحو سنتين، وهي التي أجبرت على حمل السلاح بعد مرور نصف سنة من ثورة سلمية مدنية، كان يجب أن يكون الشعور الأميركي معها أكثر رومانسية وحماسة..

صدق من قال: عدو سوء عاقل ولا صديق جاهل!

[email protected]