صناعة الأمل

TT

كنت في رحلة لإحدى الدول العربية لحضور مؤتمر عن الاستثمار والقوانين الجديدة المستحدثة لتحسين مناخ الاستثمار وإزالة العقبات والقيود وتخفيف الروتين، وهو مؤتمر من النوعية التي تشبه ما قبلها، نفس الوجوه تقريبا ونفس الوعود ونفس العناوين. تتأمل في وجوه الحضور وبعضهم يغط في سبات عميق وآخرون مشغولون بالتواصل مع أجهزتهم التقنية المختلفة وعدد لا بأس ممن أتى جاء للتعريف بنفسه والتعرف على غيره، ولكن السمة المدهشة في هذا المؤتمر (وحتما في غيره أيضا) إحساس رجال الأعمال في الدول العربية بأنهم رجال أعمال من الدرجة الثانية في دولهم، وأن رجال الأعمال الأجانب يعاملون بطريقة مثلى وأفضل منهم؛ فتفرش لهم السجادة الحمراء وتنشر الورود وتقدم كافة أنواع التسهيلات والمزايا.

واتسعت دائرة النقاش التي كنت واقفا ضمنها في إحدى فقرات الاستراحة بالمؤتمر وانضم عدد من المسؤولين والوزراء ورجال الأعمال للحوار كل يدلو بدلوه ويوضح وجهة نظره بين مؤيد ومدافع، الكل كان يقدم الأمثلة والنماذج ويستشهد بالوقائع عن تجارب دول مختلفة حول العالم نجحت في تذليل الصعوبات وجلب كبرى الشركات وتطوير مناخ الأعمال وبالتالي تحقق التطور الاقتصادي المنشود وانعكس بالإيجاب على نسب التوظيف والنمو عموما وهذا هو المطلوب بالتأكيد.

وفي وسط الحديث المتشعب قام أحد رجال الأعمال وهو يدافع عن سياسة إحدى الدول العربية وقال مستشهدا: إن وزير التخطيط يقول في أحد حواراته، وقاطعه آخر بالضحك الهستيري وقال له: هذه هي المشكلة يا عزيزي.. وزارة التخطيط لا مكان لها اليوم في ظل حراك ديناميكي ومختلف، فالمعطيات الاقتصادية أصبحت آنية جدا وأدواتها لا تحتمل تنظيرا لا علاقة له بأرض الواقع وهو أحد مسببات نمو الفجوة ما بين المطلوب حقيقة وما يتم التنظير له خلف أبواب مغلقة في غرف مكيفة.

الاستثمار الدولي أو الخارجي بصفة عامة لا يأتي بأعداد كبيرة دون أن يحس ويؤمن المستثمر المحلي بجدوى الاستثمار في بلاده ويلمس بنفسه التطور الصادق والحقيقي في معايير ومقاييس الأنظمة والقوانين ومراحل اتخاذ القرار، ويدرك تماما وجود تطور نوعي في الشفافية وتحقيق الفرص العادلة والسوية للوصول للهدف المنشود، وأن يكون هناك حضور «مؤسساتي» يؤمن كل ذلك بعيدا عن المزاج الخاص و«الشخصنة» حتى لا تتحول الدوائر النافذة في اتخاذ القرار إلى بؤرة تمركز للمحاسيب والأنصار فتفسد كل ما كان من الممكن أن يكون صادقا ومفيدا.

على الورق كل معايير النجاح متوفرة لمشاريع الأعمال في العالم العربي؛ فالسوق ضخمة وكبيرة ومتنامية، والسلع مطلوبة ومرغوبة، ومعدلات النمو في السوق ترتفع، وتوجد أيد عاملة وقدرة على التمويل ومواد خام، إلى آخر المعطيات المختلفة التي تتكون منها منظومة أعمال ناجحة، ولكن يبقى التحدي الكبير هو الإحساس بالثقة في الإيمان بالأنظمة والقوانين الموضوعة في أن تنفذ بنزاهة وموضوعية وعدالة وتتاح الفرصة بسوية للجميع دون «عراقيل غامضة ومريبة» توضع للبعض وتزاح من أمام البعض الآخر بشكل مفاجئ وغريب كما يحدث دوما.

واستمر الحديث العاصف، الذي صور حالة مهمة مما يحس به رجل الأعمال العربي، وكم كان تعليق أحد المشاركين لافتا ومؤلما وصادقا في آن واحد وهو يقول بعد أن تنهد بأسى وعمق وقال بصوت هامس: «يا جماعة لا كرامة لمستثمر عربي في وطنه» رأس المال بطبيعته جبان كما يقول المثل المعروف، ولكن في حالات متزايدة الآن يتحول رأس المال العربي اليوم إلى جبان وشكاك أيضا وهو يرى ازدواجية في الطرح تفضل «الغير» عليه ولا «تبديه هو» وتحاول أن تريحه وتطمئنه وتغريه بالتسهيلات والمغريات والحوافز والمكافآت التي ينالها الأجنبي في بلاده. مؤتمر اقتصادي آخر وحوارات ونقاشات لا تنتهي، نفس الأسئلة ونفس الوجوه ونفس الاقتراحات.

حالة ذهنية جامدة وبحاجة ماسة لأحد أن يخترقها ويحدث النقلة الحقيقية في صناعة القرار وصناعة الأمل وهي أهم السلع المفقودة اليوم في العالم العربي.

[email protected]