العراقي المفقود.. الأمن المفقود!

TT

استطاعت دول الجوار العراقي التي استهدفها الإرهاب، مثل السعودية والأردن وتركيا وإيران، أن تتجاوز أزمتها وتنتصر على الإرهاب وتوقف أنشطته العنفية وقواعد حركته، كل حسب ظروفه ومناخاته السياسية والدينية والمعالجات الملائمة، باستثناء العراق الذي ظل ينزف منذ نحو تسع سنوات، وإن عمليات التفجير ليوم الأحد 9 سبتمبر (أيلول) الماضي التي ضربت عددا من المدن العراقية إضافة إلى العاصمة بغداد، لم تكن الأخيرة، بل هي جزء من الموت المستدام يوميا، وهو يحصد أرواح المئات من العراقيين ويهدر ممتلكاتهم وأمنهم الاجتماعي والنفسي والمعيشي.

المشكلة الأساسية التي يهرب من مواجهتها أغلب المسؤولين السياسيين المعنيين بالملف الأمني تتمثل في انعدام البنية التحتية للأمن في العراق، وهذه الظاهرة التي سنأتي على إيجازها لا تعكس حالة الفساد والتشرذم وغياب الخبرة الإدارية في إدارة الدولة وحسب، وإنما تتكثف صورها في غياب منهجية الوعي الموجه بقوانين تصنيع الأمن كبنية ذات أنساق تتكامل مع بعضها، ولعل أهم أنساقها تأتي في وسائل الوصول للمعلومة وترصين الوعي الاجتماعي باعتبار أن الأمن مشروع دولة وإنجاز مجتمع لا حزب أو حكومة، ومعالجة البطالة وتحسين المناخات الاقتصادية والتثقيف الدائم بالأخطار المتعددة التي تنتج جراء غياب الأمن، إضافة إلى وسائل التقنية الحديثة في اكتشاف المعلومة وإحباط الفعل الإرهابي في إجراء احترازي، كما يمكن الاعتماد على الإعلام ووسائل التربية والإرشاد والوعظ الديني في البلاد التي لا تشهد انقسامات طائفية حادة.

العراقيون فشلوا في كل هذا ولم يحصدوا سوى الانهيارات المتلاحقة، وأرقام ضحايا تتضخم يوميا، وخسائر مادية، وتعطيل مشاريع الاستثمار والبناء بعد أن تقهقرت الخدمات بكل جوانبها، وتآكلت الأحلام في سراب التحول إلى الدولة المدنية الديمقراطية بعد أن تقلصت الحريات وتراجعت الحياة في عموم آفاقها، وصار المراقبون المحليون والدوليون يتندرون بسخرية مرة عن قدرة الفساد على إنتاج دولة «جديدة» تدعى العراق!

الأمن في العراق يدار من قبل مكتب القائد العام للقوات المسلحة، ويشرف عليه رئيس الوزراء السيد نوري المالكي وجميع القطاعات العسكرية والقيادات الأمنية ترتبط به على نحو مباشر، وتتلقى عنه الأوامر والواجبات، وفي تداخل للشأن الأمني الخاص بشؤون الداخلية مع العسكري التابع لوزارة الدفاع، ومن هنا لا تجد حدودا واضحة للمسؤوليات في ظل غياب وزراء الدفاع والداخلية والمخابرات والأمن الوطني منذ عامين ونصف العام، وكذلك في انعدام وجود قيادة عامة للقوات المسلحة متخصصة بمختلف الصنوف التقليدية والحديثة، وبعيدة عن النفوذ السياسي للأحزاب والأجندات الخارجية والطائفية، أو مظاهر المحاصصة والفساد السياسي والإداري، وهكذا كنا ولم نزل نفتقد البنية الأمنية ونفشل في تصنيع الأمن، فيما الإرهاب يطور من أدواته وأهدافه ويحقق ضربات موجعة في مسك زمام المبادرة واختيار الأهداف دون قدرة المسؤولين العراقيين على قراءة ملامح العدو الحقيقي وأهدافه، فيذهبون في أعقاب كل عملية إرهابية واسعة وكارثية إما لاتهام «القاعدة» أو بقايا النظام السابق أو بعض الدول الإقليمية، ولكن دون أدلة جنائية قاطعة أو ضوابط جرمية مادية أو استخبارية، وتدور هذه الدوامة من الفشل منذ تسع سنوات دون حياء أو شعور بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية إزاء الأرواح التي تزهق، والدماء التي تنزف بإيقاع يومي يضاعف ترنيمة الأحزان والقهر للمواطن دون اكتراث، أو موقف يرقى لمستوى تضحيات المواطن العراقي الذي صار يحرم ويجوع ويموت من أجل حياة السياسي وامتيازاته ونفوذه وأمنه الشخصي المحصن، وتلك هي المفارقة التاريخية الحاصلة في العراق الجديد، فالمواطن أصبح ضحية القرصان السياسي.

* كاتب عراقي