العنف المقدس.. دلالات سياسية!

TT

«إنا كفيناك المستهزئين»، هذه الآية يخاطب الله بها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، ويذهب عامة المفسرين إلى أنها «وعد» إلهي بأن لا يضر مقام النبوة مستهزئ، علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن سعدي الذي أعتبره أحد العلماء النادرين والمظلومين إعلاميا، يقول في تفسيره الشهير: «وهذا وعد من الله لرسوله أن لا يضره المستهزئون، وأن يكفيه الله إياهم..».

إذن من الخطأ الكبير تسمية فيلم بهذه «التفاهة» بالمسيء للنبي، فمقام النبوة، كما يقول علماء الكلام المسلمون، مكتمل وناجز، وهذا لا يشمل المكانة التاريخية، بل يتعاظم الاكتمال بفعل التراكم التاريخي وبقاء الإيمان بالمقدس، كما يحققه أيضا علماء مقارنة الأديان اليوم.

الفيلم المسيء للمسلمين أصبح سوقا خصبة للمزايدة الدينية، وهي قضية متكررة ودائمة إلى الحد الذي باتت مغرية لكثير من السفهاء الذين باتوا يرون في ردة فعل المسلمين، فرصة مغرية للشهرة ولافتعال فتن كبرى ولجر كثير من البلدان الإسلامية الهشة على مستوى الاستقرار السياسي إلى مربع الفوضى.

ليس المهم الآن الدخول في الصراع الآيديولوجي بين المسلمين أنفسهم، مثقفين ونخبة وسياسيين وحتى الجماهير، حول طريقة التعامل مع الفيلم أو ردة الفعل تجاهه من ناحية دينية، المهم هو قراءة الدلالات السياسية للحدث، فالعنف المقدس «هو بالمناسبة عنوان كتاب هام جدا للمفكر الفرنسي رينيه جيرار يتناول ظاهرة العنف المرتبطة بالتعصب الديني تاريخيا»؛ هذا العنف هو قناع ديني لانفجار صراع «الهويات»، وبالتالي يجب أن لا يرتهن في قراءته إلى الجانب الديني الكامن والمضمر، وإنما في أبعاده السياسية التي بفحصها يمكن فهم الظاهرة، ومن ثم تقديم الحلول في السيطرة عليها.

وللتدليل على أن أزمة «الفيلم المسيء للمسلمين» هي ردة فعل سياسية بدوافع آيديولوجية، نتساءل: لماذا لم تظهر ردود الفعل العنيفة في البلدان المستقرة سياسيا؟ لماذا عادة ترتبط ردود الفعل العنيفة بمناطق التوتر والفوضى والاستقرار السياسي؟ ومن ثم لماذا يتضخم «الفاعل» ويتحول من شخص مغمور إلى «الغرب» كله؟ فهل من المعقول استهداف السفارة الألمانية، أو مطعم «كنتاكي» الذي تحول في السياق الشعبي إلى «طرفة»؟ وهو الأمر الذي لا يمكن فهمه إلا بتحليل الظاهرة وفق منطقها السياسي وليس قناعها الديني.

الأمر الآخر الأكثر أهمية أن ردة الفعل تجاه «الفيلم المسيء» ليست مقطوعة الصلة عن أحداث أخرى قبلها وبعدها، لكنها لا تحرك الوجدان الشعبي الذي بات منمطا تجاه طريقة استثارة معينة، وإلا فمن يتابع المنتجات الفنية الغربية - وبعضها متابع ومشاهد - سيجد أكثر من فيلم مسيء وبطريقة أكثر صدمة لكنه لم يلفت له، لأن من طبيعة العنف المقدس أن يظل كامنا حتى يحين وقت «التضحية» ومن هنا يكون خلق المبرر جاهزا بعيدا عن وجاهة الاختيار أو توقيته أو حتى علاقته بالقضية.

هناك حالة من الانزلاق نحو مربع العنف تعيشها ليبيا التي جسدت ردة فعلها في قتل السفير الأميركي الذي كان بالمناسبة من أكثر أنصار «الربيع العربي»، حيث سبق ذلك هجمات للسلفية الجهادية المسلحة على مساجد وأضرحة صوفية في طرابلس ومصراتة دون أن تحدث أي ردة فعل، ودون أن يتبرع، على الأقل، عقلاء الرموز الدينية بأن يقولوا رأيهم في هكذا تصرفات، لأن تصحيحا مفاهيميا كهذا سيكلف سحب الشرعية عنهم، وربما هجوم الجماهير الغاضبة، في حين أن الجميع يعلم أن تصرفا كهذا جريمة اجتماعية ضد منطق المصلحة الشرعية التي يجب تغليبها. وإذا كان الهجوم على الأضرحة التاريخية وفي هذا التوقيت محل تبرير عند أنصار المتطرفين؛ فما هو التبرير للسكوت عن تفجير منظمة إنسانية كاللجنة الدولية للصليب الأحمر؟ كما أن غض الطرف عن أمور رمزية ذات دلالات سياسية عميقة هو ضرب من التعامي، فرفع أعلام «القاعدة»، ونشر بيانات ومنشورات باسم كتائب جديدة تحمل اسم الشيخ عمر عبد الرحمن في ليبيا، وظهور مجموعات صغيرة في شمال لبنان، هي كلها مؤشرات على اتساع رقعة الأصولية.

وما يقال عن ليبيا يقال أيضا عن تونس التي تعرضت لهجمات على معارض فنية وكليات تعليمية وحتى مساجد أئمتها لا يتبعون أفكار الجماعات المسلحة التي بدأت في الظهور للعلن، فهي لم تولد من فراغ، ومن كان يعتقد أنها غائبة عن المشهد فهو غارق في أحلام الربيع الوردية.

الأكيد أن عهد الانشقاقات الكبرى الذي كنت في آخرين من المتنبئين به بعد فوز الإسلام السياسي بالسلطة، فالسلفية الجهادية والأصوليون الذين يتبعون أفكارا متطرفة، وحتى أحزابا كحزب التحرير، والسلفية العلمية، جميعهم يبحث عن «تقدير» سياسي، ودور في المجتمع، أو حتى على الأقل عدم ممانعة من رفقاء الأمس الذين تسنموا عرش السلطة، وهؤلاء يرون أن شرعية الإسلام السياسي التي منح بها السلطة، إنما اكتسبت من خلالهم، فهم الأكثر حضورا على مستوى البناء التحتي للمجتمع، من خلال سيطرتهم على منصات التوجيه، وأهمها المساجد والأنشطة الدينية غير الرسمية، كما أن كل تنازل يقدمه «الحاكمون الجدد» للتيارات المدنية علمانيها ويساريها ووطنيها، يخلق فجوة أخرى في سبيل الشرعية الأصولية على الأرض، وهي أكثر أهمية من شرعية الانتخابات والصناديق، وهذا ما يفسر التهاون في مسألة سيناء؛ بل إسناد أمر التفاوض فيها إلى شخصية أصولية متشددة، وازدواجية المجلس الوطني الانتقالي في التعامل مع الهجمات ضد المواقع الصوفية بهدف عدم إغضاب القوى الثورية ذات الخلفية الجهادية، وفي تونس تغض النهضة الطرف عن ممارسات المتطرفين لأنها لا تريد فتح جبهة معهم، في حين أن موجات الممانعة لها من قبل التيارات العلمانية قد بلغت أشدها.

ما يحدث الآن ليس مجرد ردة فعل غاضبة تدل على مقدار حبنا للنبي (صلى الله عليه وسلم)، بل هي أشكال من التعبير العنيف عن الفراغ السياسي والأمني، وصراع على الاحتكار للشرعية الدينية بين التيارات المتطرفة المسلحة والأصولية وبين الإسلام السياسي الحاكم بأمر الجماهير.

لا يمكن لأي جديد أو تطور باتجاه الدولة المستقرة أن يحدث دون السيطرة على مكامن العنف فكرا وسلوكا، وهو بالمناسبة لا يرتهن بحلول أمنية أو مواجهة مباشرة، بقدر ما أنه بحاجة إلى سياق طويل من العمل المجتمعي، وتطور الحضارة الإنسانية ذاتها هو جزء من قدرة المجتمعات على مواجهة العنف كما يقرر الفيلسوف كارل بوبر، فتقليص حدود العنف إلى حده الأدنى وتجفيف مصادره، بالتالي وفقا لبوبر أيضا فإن الحل ينبع من الأفراد أنفسهم الذين يجب أن تتلبسهم ثقافة التسامح قبل أن تفرضها عليهم القوانين، ومن هنا فإن التسامح بهذا المعنى ليس مجرد فضيلة تمليها التعاليم الدينية، كما يؤكد الراحل الكبير المفكر الجزائري محمد أركون، بل «استجابة للمتطلبات الاجتماعية، والسياسية في أوقات الاضطرابات الآيديولوجية الكبيرة».. ألسنا في أوج هذه الأوقات؟!