المدن المؤّلِفة

TT

قرأت أن «ناس من دبلن» للروائي الآيرلندي جيمس جويس ترجمت إلى العربية بمناسبة مئويته. مجموعة قصص قصيرة عن رجال عادوا فظهروا في رواية جويس «أوليس» التي اعتبرت أهم روايات القرن الماضي بالإنجليزية. وقد ترجم اسم «أوليس» «عوليس» ولا أدري من أين دخل حرف العين على اللغة اليونانية.

في أي حال، المدينة، دبلن هنا، هي بطلة الرواية. المدن هي التي صنعت الروائيين الكبار، كما يخيل إليّ. باريس صنعت بلزاك، ولولا بطرسبرغ لما كان هناك دوستويفسكي، والقاهرة هي محبرة نجيب محفوظ، ولندن كتبت روايات ديكنز.

تقدم المدن أشخاصها للروائيين كما يقدم المسرح أبطاله. وليس على الروائي الماهر سوى أن يراقب ويدوّن ويغرف. الروائيون نوعان؛ واحد يغرف من التاريخ، وواحد من الحياة. نجيب محفوظ مرة من هنا ومرة من هناك. أمين معلوف، مثل جرجي زيدان، دخل خزائن التاريخ. أما روايته المعاصرة «مرافئ الشرق» فكانت الأقل نجاحا. علاء الأسواني بنى نجاحه على عمارة واحدة في القاهرة بدل الحارات التي تنقل فيها نجيب محفوظ. ويوسف زيدان - الذي ترجم الآن إلى الإنجليزية - قرر أن يسكن في جناح واحد من أجنحة التاريخ، حيث يكثر الغموض والأساطير، على طريقة دان براون في «رموز دافنشي».

لعل باريس كانت الأكثر تعددا في تزويد الروائيين بالأشخاص والأحداث والخواتم السعيدة أو المحزنة. وربما كانت أهم ملاحمها «البؤساء» لفيكتور هوغو. وقد لاحظ قارئ عزيز أن «البؤساء» خطأ شائع، والأصح القول «البائسون»، لأن الأولى من بأس والثانية من بؤس. وشكرا للتصحيح، لأن عنوان «البؤساء» غرز في الذاكرة العربية منذ عقود وللأسف.

الرواية أدب متأخر في العالم العربي الذي كان هائما بالشعر. لذلك لم يكن للمدن روائيوها مثل القاهرة. والمفارقة أنه في حين دون العرب قصص القاهرة، دون الغربيون حكايات الإسكندرية، مثل «الرباعية» التي كتبها لورانس داريل.

ساعدت السينما على نشر الرواية المصرية والانصراف إليها. وحدث أمر مشابه في باريس. أما الرواية الأميركية الحديثة فلم تخرج من مدينة واحدة بقدر ما صورت العالم الأميركي بتلوينات مجتمعاته المختلفة، ما بين الجنوب البائس والغرب الميسور.

«ناس من دبلن» مثال على روعة جيمس جويس، وأسلوبه المباشر الشديد الخصوبة والبساطة. وبين مجموعة القصص القصيرة واحدة بعنوان «أرابيا» أو ما يفهم أنه الجزيرة العربية الخيالية. لكن Araby ليس سوى اسم سوق في دبلن حيث يحلم بأن يشتري منه هدية «لشقيقة ماناغان» أول بنت حلم بها. لكنه يواجه في السوق الذي يصله متأخرا، خيبة أخرى من الخيبات التي طبعت حياته. ومنها أنه لم يعثر في البداية على من ينشر رواية «أوليس» التي سوف تصبح، كما أسلفنا، أهم روايات القرن.