التعليم في خطاب العاهل المغربي

TT

شغل موضوع التعليم في المغرب حيزا غير يسير من الخطاب الذي وجهه الملك محمد السادس لشعبه يوم 20 أغسطس (آب) الماضي، في ذكرى ثورة الملك والشعب، ليلة الاحتفال بعيد الشباب الذي يصادف في المغرب ذكرى ميلاد الملك. وهذا الخطاب السنوي مناسبة يترقبها المغاربة للإعلان عن قرار حاسم أو أمر مهم. ربما كان خطاب «ذكرى ثورة الملك والشعب» يأتي، من حيث الأهمية، في المرتبة الثانية بعد خطاب العرش.

وما جرى عليه التقليد كذلك هو أن خطاب المناسبة المشار إليها غالبا ما يتصل بالشباب، ويتعلق بالشبيبة المغربية وما يعرض لها من مشكلات وما تتخبط فيه من صعوبات. وحديث الملك عن حال التعليم في المغرب كان حديثا قويا صارما، حتى إن بعض وسائل الإعلام في المغرب اعتبرته حديثا بلغت فيه درجة الصراحة حد المصادمة. لا بل إن بعض الجرائد اعتبرت النقد الصارم في خطاب الملك محمد «نعيا للمدرسة العمومية في المغرب». ولا شك أن في هذا القول مبالغة وإسرافا في حمل الخطاب على غير ما ذهب إليه، وإن كانت لغة البيان الصارم، والدعوة إلى وجوب المراجعة الشاملة لفلسفة التعليم، قد تجد في أقوال بعض الصحف ما يبررها.

حديث التعليم في الخطاب الملكي بيان موجه للشعب المغربي قاطبة، وتصوير لقلق عام، تجاه التعليم وقضاياه وفلسفته وتوجهاته، تستشعره كل الدول. والشأن كذلك في التعليم من حيث هو تكوين لأجيال الغد، وإعداد للحياة العملية وصعوباتها ومتطلباتها، وإعداد للمواطن على النحو الذي تريده البلاد فتختلف بصدده الرؤى، ويستوجب الأمر نقاشا وحوارا عاما. لكن خطاب الملك، في هذا الشأن، خطاب موجه للحكومة باعتبارها المالكة للسلطة التنفيذية والمسؤول المباشر عن كل القضايا التي تتصل بالتكوين والتعليم وما يتعلق من ذلك بالحياة العملية.

خطاب الملك، في كلمة جامعة، نظرة نقدية صارمة ودعوة إلى المراجعة، وإقرار بوجوب القيام بوقفة تأمل تقتضي، بطبيعتها، القيام باستشارات واسعة. وبالتالي فالخطاب، كما نتبينه، دعوة إلى عقد حوار وطني شامل تشارك فيه كل مكونات الشعب المغربي من المجتمع المدني والمجتمع السياسي، فضلا عن الحكومة ذاتها بطبيعة الأمر. الرأي عنده أن هذا فهم للأمور تستوجبه اللحظة التاريخية التي يجتازها المغرب حاليا، وتقتضيه جملة التحولات الحادثة في مجال التربية والتكوين. لنقل، تماشيا مع القاموس السياسي المغربي، إن الأمر يستدعي تنظيم «مناظرة وطنية» حول التعليم في المغرب؛ واقعه ومشكلاته وآفاق تطويره.

قد ينبغي أن نعلم أنه عقدت في الماضي مناظرتان وطنيتان شهيرتان حول التعليم؛ الأولى في بدايات ستينات القرن الماضي، والثانية بعد نحو عشر سنوات من ذلك.

كانت المناظرة الأولى (وتحمل اسم مناظرة المعمورة، نسبة إلى المنتجع الذي عقدت فيه - قريبا من الرباط) وقفة تأمل في حال الأهداف الأربعة التي سطرت للتعليم في المغرب غداة استرجاع الاستقلال (التوحيد، التعميم، التعريب، المغربة). أما المناظرة الثانية فقد جاءت عقب أحداث هزت الجامعة المغربية (مناظرة إيفران) - نسبة إلى المدينة السياحية في حضن جبال الأطلس المتوسط - لذلك فقد كان أغلب انشغالها هو الجامعة والدراسة الجامعية. ونتجت عن هذه المناظرة قرارات، لعل أهمها تسوية الوضعية الإدارية للمدرسين العاملين في الجامعة الفتية، وكذا استحداث جامعات جديدة، فلا تظل جامعة محمد الخامس (الرباط) هي الجامعة الوحيدة مع كل الصعوبات والمشاكل الإدارية والسياسية التي تنشأ عن ذلك، وهكذا حتى أصبح عدد الجامعات الحكومية اليوم 14 جامعة.

نقول إن الضرورة تقتضي اليوم - سعيا نحو بلورة وترجمة عملية إيجابية لخطاب الملك محمد السادس من حيث إن البيان الصارم (بل الصادم) الذي يحمله جاء تعبيرا عن رغبة وطنية شاملة وتقريرا لواقع مرير - عقد مناظرة وطنية كبرى (تستفيد من الناحية التنظيمية من المناظرتين السالفتين وتعمل على اجتناب الأخطاء التي وقعتا فيها)، وذلك في المدى القريب. وأود أن أشدد على مسألة التحضير العقلاني والجدي لهذه المناظرة مع الحرص الأكيد على إشراك الكفاءات العلمية وأرباب الخبرة التربوية - ولا اعتبار لوجود من كان منهم في حال التقاعد الإداري - جنبا لجنب مع الممثلين الفعليين لقوى المجتمع المدني، مع الحضور الوازن لقوى المجتمع السياسي. والضرورة التي نشير إليها ترجع إلى مبررات أساسية ثلاثة، أو لنقل إنه لن يقوم اختلاف حولها في ما أحسب..

المبرر الأول هو ما يحمله الدستور المغربي الذي قرر الشعب المغربي - عن طريق الاقتراع العام - اعتماده المرجعية التشريعية العليا، وذلك منذ فاتح يوليو (تموز) من السنة الماضية. يحمل هذا الدستور في ديباجته (تصديره)، وكذا في العديد من أبوابه وفصوله، طرقا جديدة في التشريع، واختيارات جوهرية جديدة تمام الجدة، وهذه أمور تنعكس بطبيعة الأمر على التعليم وعلى التربية وعلى التكوين، وبالتالي على إعداد المواطن. من ذلك، أولا وأساسا، اعتماد اللغة الأمازيغية، بجانب اللغة العربية، لغة رسمية للبلاد. ومن ذلك، ثانيا، الحرص كل الحرص على الحفاظ على الهوية المغربية وأساسها الغنى والتنوع في المكونات مع الحفاظ على الخيط الناظم والوحدة الجامعة. ومن ذلك، ثالثا، التأكيد على مراعاة حقوق الإنسان كما هي منصوص عليه عالميا، مع التشبث بالمبادئ القارة للدين الإسلامي. ولسنا في حاجة إلى التذكير بالصلات الأكيدة والروابط البنيوية التي تقوم بين هذه الأمور كلها وبين الاختيارات في نظم التربية ومناهج التعليم.

يستوجب الدستور المغربي الحالي، باختياراته الجديدة وبموجب الروح التي تحكمه، إعادة نظر شاملة في التعليم، مناهج ووسائل مادية وإمكانات بشرية.

المبرر الثاني هو رياح التغيير التي يحملها هذا الذي يقال عنه إنه الربيع العربي، ونصر، من جانبنا، على نعته بحال الانتفاض الذي يحمل نذرا شتى. طبيعة الشعارات التي يحملها الشباب، قادة هذا الانتفاض ولحمته، ومضمون المطالب التي يرفعونها، بل والرغبة التي تحرك هذا كله تستدعي بطبائع الأشياء (كما يقول الفلاسفة) مراجعات شاملة في مناهج التعليم وطرائق التكوين، سواء في مستوى الإعداد الثقافي للإنسان - في ضوء الشروط العالمية الجديدة - أو من أجل مواءمة أفضل بين التكوين والتشغيل، أو بين التعليم والإعداد للحياة العملية.

المبرر الثالث ذو طبيعة أكثر شمولية، فهو يشترك مع مطالب وهموم إنسانية عالمية من جانب أول، وهو، من جانب ثان، يتصل بما تستوجبه طبيعة التعليم بذاته من حيث أنه إعداد لإنسان الغد وعمل على جعله أكثر قدرة على خوض الحياة والانتساب إلى العصر. ونحن إذ ننظر في أحوال الشعوب والدول الكبرى من حولنا فنحن نجد أن هم التربية والتكوين يكون هما مشتركا شاملا. إنني إذ أتابع عن كثب حديث التربية والتكوين في مختلف أطوار الدراسة في فرنسا، فإنه يخيل إليّ أن البلد يتخبط في مشكل ليس له أول ولا آخر، والحال أن حال التعليم في هذا البلد ليس من السوء الذي يمكن أن يتصوره من كان متابعا للنقاش الدائر في فرنسا، وإنما هي الغيرة والحرص الأكيد على طلب الأفضل.

الأسئلة الاجتماعية الكبرى، تلك التي يطرحها العيش المشترك بطبيعته، والسرعة الفائقة في مجالات الاختراع، والحاجة المتعاظمة إلى إحداث مناصب للشغل من جانب أول وإكراهات التقليل من فرص الشغل من جانب ثان.. فضلا عن الأسئلة الأخرى، المتجددة، التي تتعلق بالهوية والحفاظ عليها مع داعي التغيير وهيمنة النموذج الثقافي الأوحد وأسئلة أخرى.. كل هذه أمور تنقل حديث التكوين والتعليم إلى بؤرة الأحداث، وتملأ ساحة الشعور. هموم وقضايا لا أحد يملك أن يكون بمعزل عنها.