الفجوة المتسعة

TT

أن تتزامن زيارة بابا الفاتيكان إلى لبنان مع المظاهرات الصاخبة التي خرجت في أنحاء متعددة من العالم، احتجاجا على فيلم أحمق يسيء للإسلام، صدفة خير من ألف ميعاد بالنسبة لأي عربي أو مسلم ما زال يأمل في ردم الفجوة التاريخية الواسعة بين الشرق والغرب، أي بين ما اصطلح الغرب على تسميته بـ«أمة الإسلام» والعالم المسيحي.

ردم هذه الفجوة، دون المساس بخاصية المعتقدين وحساسيات العالمين، مهمة تستوجب توافقا على أساسيات سياسية ومبدئية لا يبدو الغرب في وارد تقديمها حتى الآن، وفي مقدمتها إقرار تسوية منصفة للقضية الفلسطينية تزيل عامل التوتر الدائم في العلاقات مع زعيمة الغرب، الولايات المتحدة.

بانتظار ذلك، تبدو مبررة دعوة البابا بنديكتس السادس عشر مسيحيي الشرق الأوسط إلى«الثبات» في أرضهم وإلى الحوار والمصالحة. ولكنها تظل محاولة متواضعة لردم فجوة تفصل بين ذهنيتين في منطقة لم تفلح بعد في تحويل «الشرق والغرب» - ببعديهما الديني والحضاري - إلى تنوع خلاق بين أبناء العرق الواحد.

إعادة تحديد مفهوم العيش المشترك في الشرق والغرب معا، بات ضرورة ملحة في ظل استمرار الانتشار الإثني المتزايد للمسلمين في الغرب واستمرار حاجة الغرب إلى مصالح اقتصادية واستراتيجية في الشرق – أو دول «أمة الإسلام».

وإذا كان لافتا أن مظاهرات الاستنكار للفيلم الأميركي البذيء لم تستهدف السفارات الأميركية فحسب، بل طاولت سفارات أخرى في بعض العواصم الغربية لمجرد أنها سفارات دول «غربية»، فإن أكثر من ظاهرة واحدة تبقى مثيرة للانتباه في ردود الفعل الشعبية على الفيلم الأميركي.

الظاهرة الأولى هي ظاهرة اقتران العداء السياسي للولايات المتحدة في الشارع العربي بمشاعر جفاء ونفور من الصيغ الديمقراطية «الغربية» للحكم في وقت تتطلع فيه جماهير «الربيع العربي» إلى تحقيق غد ديمقراطي يجسد احترام الدولة للإنسان وحقوقه البديهية. وهنا يجوز التساؤل: هل كانت مجرد صدفة أن تتفجر هذه الانتقادات الواسعة للحريات الديمقراطية في الولايات المتحدة، فيما لا تزال دول «الربيع العربي» في أمس الحاجة إلى دعمها لأنظمتها الناشئة؟

أما الظاهرة الأخرى التي أعادت مظاهرات الاحتجاج، التذكير بها فهي اتساع الفجوة الحضارية - التراثية – الثقافية التي سبق أن نوه بها الشاعر البريطاني رديارد كيبلنغ في القرن التاسع عشر، بمقولته الشهيرة «الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان». واللافت على هذا الصعيد أن هذه الفجوة اتسعت رغم كل ما حققته تقنيات ثورة الاتصالات من تقريب بين الدول وتواصل بين البشر في السنوات الأخيرة.

ربما لا يزال لبنان الساحة الأكثر تقبلا لاختبار تجربة ناجحة للتعايش الإسلامي – المسيحي في المشرق. ولكن من الصعب توقع انطلاق هذه التجربة من الأفراد، قبل أن تنطلق من الدولة نفسها، وتحديدا من الدولة القوية الممسكة بزمام كل أمورها، كونها في نهاية المطاف الضمانة الفعلية لأي تعايش إسلامي – مسيحي تصح تسميته بالوحدة الوطنية. وفي هذا السياق بالذات تبرز أهمية «الصيغة الديمقراطية» للدولة كإطار عملاني لضمان تساوي اللبنانيين في الحقوق كما في الواجبات، بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية.

وهنا تبرز التعقيدات اللبنانية التقليدية التي تحول دون تطبيق نظام ديمقراطي خالص لا يراعي ما أتفق على تسميته بـ«الديمقراطية التوافقية» أي حصص الطوائف في السلطة والدولة.

بعد أن وصف البابا بنديكتس السادس عشر الربيع العربي بأنه «أمر إيجابي ورغبة في المزيد من الديمقراطية والحرية وبهوية عربية متجددة» قد يكون من المنطقي القول بأن التعايش الإسلامي المسيحي في لبنان بات، هو أيضا بحاجة إلى «ربيع لبناني».