أوروبا والفاتورة الكبرى

TT

أوروبا مهد الحضارات، هكذا دوما تعرف تلك القارة العجوز، ففيها علوم وحضارات ومجد وتاريخ، ولكن من الصعب اختزال أوروبا «كلها» في مشهد واحد حتى ولو كانت دولها تنتمي إلى اتحاد أوروبي يجمعها ويوحد صفوفها، ولكن هناك تنوعا أوروبيا مدهشا لا يمكن إنكاره أبدا.

فهناك صراع تقليدي وقديم بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط ودول وسط أوروبا على قيادة القارة العجوز، وهذا الصراع القديم متنوع ويتفاوت بقدر قدرات الدول المعنية وحظوظها وصعود فرصها لمختلف الأسباب.

فاليونان التي قدمت للعالم القديم الديمقراطية والبرلمان والمسرح والفن، وكانت عاصمتها القديمة أثينا مركزا حضاريا عالميا يصدر للعالم فكرها وثقافتها، جاءت بعدها روما الإيطالية لتقدم نموذجا جديدا للفنون والسياسة وتقدم للعالم المفكرين والفنانين والساسة وقادة الحروب، ولكن النموذج اليوناني والإيطالي تعرض للانقراض لأنه لم يتطور، لتجيء بعده نماذج استعمارية عابرة للحدود بالقوة والنفوذ، فأصبح النموذج البريطاني والفرنسي والإسباني والبرتغالي والهولندي هو السائد؛ قوى حربية كاسحة تدعمها ثقافة مسيطرة، غرضها السيطرة على موارد العالم لدعم موقع بلادها وتمكينها ومضاعفة قوتها بشكل عظيم وهائل.

وحصلت «نقلات» عالمية في موازين القوى، فباتت هونغ كونغ «الصينية» قلب الاقتصاد «البريطاني» في آسيا، والبرازيل - كبرى دول أميركا اللاتينية - ذراع البرتغال الكبرى، وكانت آسيا وأفريقيا مرتعا لكل من بريطانيا وفرنسا، امتصتا فيها موارد القارة السمراء لدعم اقتصادهما، وكان لهما ذات النصيب في دول آسيا أيضا. والاستثناء لهذا النموذج كان التوجه الألماني، فهي دولة حاولت السيطرة عسكريا على أوروبا وعلى العالم وتحالفت بشكل فاشي مع إسبانيا وإيطاليا واليابان، وكانت النتائج كارثية عليها وعلى العالم. واليوم، ها هي أوروبا المتورطة ماليا واقتصاديا والتي ورطت العالم معها في أزمتها الحادة والشديدة. وواقع الأمر أن العالم اليوم يدفع ثمن التفاوت الأوروبي الرهيب في التعاطي مع ثقافات العمل وفكر الإدارة وأسلوب التواصل.. كل دولة من الدول الأوروبية متورطة ماليا.

أوروبا متعددة الثقافات والأساليب مهما حاولت أن تبدو موحدة وواحدة، فعقلية الإتقان الألماني مختلفة مع الفوضى اليونانية، والدقة السويسرية لا علاقة لها بالإبداع الإيطالي، والتنظيم الإنجليزي بعيد كل البعد عن السلبية الإسبانية، والعصبية والفردية الفرنسية مختلفتان تماما عن جماعية الهولنديين. كل هذه الفوضى كان نتاجها أن يكون لكل دولة نهجها وبالتالي مشاكلها وعللها. وبدلا من أن تقوم الدول الأوروبية باستحداث نظام مالي يوحد الأوروبيين معا وبالتالي يكون مرجعية لموازناتهم ويحد من الانفلات المالي، اهتموا فقط بالنظام النقدي وإصدار عملة موحدة لتحقيق رمزية الوحدة في السوق الأوروبية، ولكن حتى هذه المسألة البسيطة لم يتفق عليها الأوروبيون، فرأينا تحفظ بريطانيا والدنمارك وتشيكيا أيضا، وهي مسألة حساسة ودقيقة جدا، يدفع ثمنها اليوم الأوروبيون لاعتمادهم حلا قاصرا وناقصا، أساسه المشكلة النقدية فقط، وليس الحل المالي الشمولي، وهو يفسر تماما الفوضى الحاصلة اليوم التي عمت العالم بأسره.

أوروبا كانت يوما مهد الحضارات ومركز الإبداع، ولكنها الآن لم تتمكن من تحقيق «الحل» الأوروبي الكامل لمشكلتها العويصة، لأن تكلفة الإصلاح تبدو - نظريا وعمليا - أكثر تكلفة من فاتورة الإبقاء على الوضع الحالي كما هو عليه، والعالم لن يستطيع تحمل الانتظار أكثر من ذلك.

[email protected]