توفير العلاج المجاني.. هل هو حقيقة حل ناجح؟

TT

أحد الأهداف الصحية الاستراتيجية لأي مجتمع بشري هو العمل على تحقيق الخفض المتوسط والبعيد المدى لحجم تكلفة تداعيات ومضاعفات الأمراض المزمنة التي قد يُصاب بها المرضى في المجتمع، مثل السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض شرايين القلب والفشل الكلوي والتهابات الكبد وغيرها. وعند التطبيق، يتم وضع التكتيكات التي بمجملها يتحقق الهدف الاستراتيجي، ويتم الاعتماد على إحصائيات وبيانات ترصد بدقة وواقعية النتائج لمعرفة مدى النجاح من خلال استخدام عدسة مكبرة واسعة تمكنا من رؤية التفاصيل في كل أرجاء الصورة، حتى أطرافها البعيدة.

وحين مواجهة مشكلة ما لتحقيقها، فإن طرح الحلول التلقائية والعفوية دون دراسة طيف احتمالات نتائج تطبيقها، يفرض علينا تقبل طيف واسع من أشكال النتائج، منها ما قد يحقق ما نريد، ومنها ما قد يؤدي إلى ما لا نريد.

وضمن عدد 10 سبتمبر (أيلول) الحالي من مجلة «حوليات الطب الباطني» Annals of Internal Medicine الصادرة عن الجمعية الأميركية للطب الباطني، نشر الباحثون من مؤسسة «آر تي آي» الدولية RTI International، التي مقرها في دورهام بولاية كارولينا الشمالية، نتائج دراستهم حول تأثير تأمين التغطية المادية لكلفة الأدوية العلاجية، على التزام المرضى بتناول الأدوية التي تعالج أمراضهم.

وقام الباحثون بمراجعات مجموعات من الدراسات الطبية التي تم إجراؤها في المجتمع الأميركي حول كيفية تحسين قدرات المرضى للالتزام بتلقي الأدوية التي يصفها أطباؤهم لمعالجة أمراضهم المزمنة. وأشاروا إلى أن الدراسات الحديثة في المجتمع الأميركي لاحظت أن 30 في المائة من الوصفات الطبية التي يكتبها الأطباء لا يتم طلب إعادة كتابتها لإعادة صرفها وتناول المرضى لها، وأن 50 في المائة من الأدوية التي تُوصف لمعالجة الأمراض المزمنة لا يتم تناولها بطريقة صحيحة.

ووفق ما أفادت به ماري بيسواناثان، الباحثة الرئيسة بالدراسة، فإن بعض تلك الدراسات ركزت على فائدة تغطية التأمين الصحي للكلفة الكاملة للأدوية أو الكلفة الجزئية. وتوصل الباحثون إلى نتيجة مفادها أن خفض كمية الثمن النقدي لما يخرج من جيب المريض للحصول على الدواء out - of - pocket costs يعني نتائج أفضل في حرص المرضى على إعادة طلب وصف الأدوية لهم من قبل الأطباء، وهو ما يعكس تناول المرضى للأدوية التي تعالج مشكلتهم المرضية المزمنة.

وأعطوا مثالا عبر متابعتهم لنحو 6 آلاف مريض مصاب بنوبة الجلطة القلبية، في مدى تجاوبهم لمدة سنة مع إعادة طلب وصفة الأدوية. وأنهم لاحظوا نتائج «أفضل» مع تحسين تغطية الكلفة المادية للدواء على المريض. وحينما ذكروا أرقام النتائج قالوا إن المرضى الذين لديهم تأمين صحي تراوحت نسبة طلبهم إعادة كتابة الوصفة الدوائية بين 36 و49 في المائة، وذلك حسب نوع الدواء. وأن هذه النسبة كانت أفضل بمقدار 6 نقاط لدى المرضى الذين يتم بالكامل تأمين تكلفة أدويتهم. وأنهم كانوا أقل عرضة للإصابة بتداعيات ومضاعفات الجلطة القلبية، إذ كانت النسبة لديهم 11 في المائة، وكانت لدى غيرهم 13 في المائة.

ولكن هل تعكس إعادة قراءة هذه الأرقام حقيقة وجود فروق تفيد بأن ثمة نجاحا؟ بمعنى أعلى الأرقام تفاؤلا فيما تقدم يفيد بأن 49 في المائة من المرضى فقط يعيدون طلب إعادة كتابة الوصفة الطبية لهم. وأن أي إنسان يتوقع أن يرى فرقا واضحا، يفوق 6 نقاط فقط، بين من يتم لهم بالكامل تأمين تكلفة الدواء مقارنة بمن لا يتمتعون بذلك. وأن المتوقع أيضا أن الجهود لتوفير كامل تكلفة الدواء للمرضى تعني أننا سنحصل على انخفاض بشكل يفوق 2 في المائة فقط في نسبة الإصابات بتداعيات ومضاعفات الجلطات القلبية لدى المرضى بها.

ولذا على الرغم من بعض التفاؤل الذي عرضه الباحثون، فإن الباحثة اعترفت في تعليقها قائلة إن النتائج لا تعني لنا أن نصل إلى القول إن زيادة تغطية الكلفة المادية للأدوية هي السبيل الوحيدة لرفع مستوى التزام المرضى بطلب إعادة كتابة الوصفة الطبية لهم.

ومشكلة عدم التزام المرضى بتناول أدويتهم بشكل مستمر ولسنوات، لا يكون الحل السحري لها توفير العلاج المجاني أو شبه المجاني. وصحيح أن خفض تكلفة ثمن العلاج هو أساس في تسهيل توفير الظروف المناسبة لدوام معالجة المرضى ولكن هذا لا يفيد كثيرا، وأرقام الدراسة التي بين أيدينا مثال على ذلك.

وحينما نريد أن نضع حلولا لمشكلة إهمال المرضى متابعة معالجتهم ومشكلة عدم نجاح جهود الأوساط الطبية في معالجة المرضى، فإن هناك عوامل قوية لدى المرضى أنفسهم تحول بينهم وبين تناول العلاج الذي ربما يتوفر بين أيديهم. ولذا طرح الباحثون ضرورة إيجاد تكتيكات ذات فاعلية للنجاح الاستراتيجي في الجوانب الصحية. ومنها حديثهم عن «الدعم السلوكي» بمعناه الواسع للمرضى وذويهم. وهو ما عرض الباحثون جوانب منه عبر قولهم إن الأمر أبعد من إخبار المريض وتثقيفه حول مشكلته الصحية ولماذا عليه تناول الدواء الذي يصفه الطبيب له، بل علينا أن نعمل على معرفة العوائق التي تحول دون تناول المرضى لأدوية كما قالت الباحثة. والتركيز على أهمية مجانية العلاج أو خفض تكلفته قد لا يؤدي بنا بالضرورة الحتمية إلى نتائج صحية أفضل.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]