القدرة الخلاقة

TT

عندما كنت في المرحلة الابتدائية، كان هناك يوم في كل شهر يسمونه يوم النظافة، وكنا نحن التلاميذ نقوم بتنظيف المدرسة بدلا من المستخدمين، سواء في الفصول أو الأحوشة أو المطاعم، وفي ذلك اليوم تلصق على الجدران منشورات وكلمات تدعو وتحث على النظافة.

ولا أنسى مدرسا دخل علينا في الفصل لكي يلقي على مسامعنا مزايا النظافة، والله يذكر ذلك المدرس بالخير إن كان حيا ويرحمه إن كان ميتا.

فقد بدأ نصائحه بطريقة حركية مبتكرة وغير متوقعة، وقف أمامنا صامتا وهو يتفرس بوجوهنا برهة، ثم أخرج من جيبه دفترا وأخذ يكتب فيه بعض الكلمات، وكلما انتهى من صفحة نزعها ثم عرفطها ورماها على الأرض، ثم أخرج من جيبه كيسا ممتلئا بالفول السوداني غير المقشر، وأخذ يأكل منه ويرمي قشره على الأرض، ثم أخرج من جيبه لوحا كبيرا من (الشوكولاته) وأخذ يأكل أمامنا ولعابنا يسيل من رؤيته وهو (يتلمض) به، وبعد أن انتهى قذف بالورق على الأرض، ثم أخرج من جيبه حبة (يوسف أفندي) وقشرها وقذف بقشرها على الأرض قبل أن يأكلها، وأنهى موقفه العجيب ذلك بفتح مكعب علكة أخذ يمضغها ويلوكها في فمه ثم رمى بها مع غلافها أيضا على الأرض، كل هذا كان يجري أمامنا ونحن مشدوهون دون أن يتلفظ هو بكلمة واحدة، إلى درجة أنني اعتقدت أنه قد أصيب بمس عقلي.. ولكنه أخيرا وبعد ذلك تكلم قائلا: هل ترون ما يستطيع فرد واحد أن يخلفه من قذارة؟!، هيا تحركوا ونظفوا فصلكم، قال ذلك ثم استدار وخرج.

ومن يومها إلى الآن كلما شاهدت أوراقا أو نفايات على الأرض تذكرت ذلك الأستاذ ودرسه العملي.

***

من المؤكد أن بعض الناس مهما تقدم بهم العمر ومهما عركتهم التجارب، يظل في شخصية كل واحد منهم شيء من سذاجة الطفولة وحب الاستطلاع، ويبدو أنني أنتمي لهذه الفصيلة من الناس.

فقبل مدة وقعت بين يدي مجلة تجري اختبارا للكشف عن (القدرة الخلاقة)، ووضعت عدة أسئلة تطلب من القارئ الذي يريد أن يخوض هذه التجربة ويجري الاختبار، فعليه أن يجيب على كل سؤال (بنعم أو لا) فقط لا غير، على شرط أن يكون صادقا وصريحا.

فاستسهلت الموضوع، وقلت بيني وبين نفسي: جرب يا ولد، أنت حتخسر إيه؟! وكانت الأسئلة كالتالي وأجوبتي تتبعها: 1- هل تضع دائما جدولا خاصا للمواعيد؟! - الجواب: (لا)، 2 - هل تتأخر غالبا في إنجاز أعمالك؟! الجواب: (نعم)، 3 - هل تساورك مشاعر غامضة قبل نومك مباشرة؟! الجواب: (نعم)، 4 - هل تتضايق غالبا من الأعمال اليومية الصغيرة؟! الجواب: (نعم)، 5 - أيخامرك القلق أحيانا بشأن نجاح جهودك؟! الجواب: (نعم)، 6 - هل أنت راض أساسا؟! الجواب: (لا)، 7 - هل تقضي كثيرا من الأمسيات مع أصدقائك؟! الجواب: (لا)، 8 - أتحلم كثيرا أحلام يقظة؟! الجواب: (نعم)، 9 - أتذكر أسماء الأشخاص الذين تلتقي بهم؟! الجواب: (لا).

وكانت النتيجة التي انطبقت علي هي: أنني إنسان قلق وحائر وعابس وشارد الذهن، كما أنني لا أمت للصفات الخلاقة بأي صلة وكهذا (جنت على نفسها براقش).

[email protected]